وداعاً غولساري.. حين يهرب الانسان من قساوة البشر الى حنان الحصان ويبني معه مجداً مشتركاً

الدنيا نيوز – دانيا يوسف

أنجبت الدول التي تعرف بجمهوريات آسيا الوسطى العديد من الكتاب المبدعين الذين برزوا خلال حقبة الاتحاد السوﭭييتي. ومن هؤلاء الروائي القرغيزي جنكيز إيتماتوﭪ.
ولد إيتماتوﭪ عام ألف وتسعمئة وثمانية وعشرين في إحدى قرى قرغيزيا الجبلية، كان والده كاتباً معروفاً ومن كوادر الحزب الشيوعي في قرغيزيا، وبرغم ذلك أعدم وهو لم يتجاوز الأربعين من عمره في مطلع الحقبة الستالينية، فعاش إيتماتوف طفولة قاسية في قريته حيث عمل في تربية المواشي. وبرغم ذلك بدأ حياته الأدبية في سنوات الدراسة إذ نشر العديد من المقالات والقصص والخواطر بلغته الأم القرغيزية ثم الروسية. ثم نال شهرة كبيرة بعد نشر روايته “جميلة” عام ألف وتسعمئة وثمانية وخمسين، ونال عنها جائزتي لينين للآداب وجائزة الدولة، لينال شهرة عالمية واسعة.
تحوّلت العديد من روايات إيتماتوﭪ إلى أفلام سينمائية ومسرحيات، وترجمت إلى عشرات اللغات، ومن أشهرها: “شُجيرتي في منديل أحمر”، “المعلم الأول” ، “الكلب الأبلق الراكض على حافة البحر”، و”يطول اليوم أطول من قرن”، و”وداعا غولساري” موضوع مقالنا، إضافة إلى غيرها من الروايات. توفي جنكيز إيتماتوف عام ألفين وثمانية.
أحداث الرواية:
ككثير من روايات إيتماتوﭪ، تدور أحداث رواية “وداعاً غولساري” في الريف القرغيزي، وتتناول محطات في حياة بطلها الراعي”تاناباي”، وهو إنسان بسيط من عامة الشعب انتسب إلى الحزب الشيوعي، ولكنه لم يجرِ في حياته خلف المناصب، بل كان يُعلي من شأن العمل ويُعطيه الأولويّة على كل شيء، فلا يخشى تحمّل المسؤوليّة أو قول الحق تحت أيّ ظرف، فهو رجل مقدام ويمقت التملق والرياء والازدواجيّة. لكنّ إدارة المزرعة التعاونيّة حيث يعمل تضعه في ظروف عمل غير إنسانيّة دون أن تُهيّىء له مستلزمات ذلك العمل من تجهيزات وعلف ومساعدين، طالبة منه تحقيق أفضل النتائج في تربية الخيول والأغنام.
وبرغم اجتهاد تاناباي وتفانيه، فإنّه يفشل في إدراة المزرعة التي تصاب بخسائر فادحة. هنا، يتعرّض تاناباي للمساءلة والمحاكمة من قبل أجهزة الدولة البيروقراطيّة ذات الأفق الضيق، فتعتبره مقصراً في عمله، ويواجه أسوأ معاملة ويفصل عن الحزب.
ولكن، على صعيد آخر في الرواية سنتعرّف إلى تاناباي الفارس الماهر، الذي طبقت شهرته الآفاق، وهي شهرة توسّعت بعدما التقى الحصان”غولساري” أوّل مرّة، وشغف بعدوه الإيقاعي المنتظم الذي يجعله يبدو كأنه يطير. ومذاك ارتبطا برباط وثيق، وبنيا مجداً مشتركاً بما فازا به من سباقات متعددة.
من خلال هذه السباقات، وأحداث الرواية، يرسم لنا المؤلف لوحة رائعة عن تفاصيل الريف القرغيزي، بطبيعته القاسية، وحياة بشره وعاداتهم وتقاليدهم، وما عانوه من قسوة الإجراءات التعسفيّة خلال الحقبة الستالينية. وهي قسوة ترمز لها الرواية من خلال انقضاء الأيّام السعيدة التي جمعت بين تاناباي وحصانه غولساري، وسوء المعاملة التي تعرّضا لها؛ تاناباي من خلال محاكمته وفصله، وغولساري من خلال تحوّله إلى وسيلة يتباهى بها المسؤولون عبر امتطائه، ثم تحوّله إلى حصان جر عربات بعدما كبر.
وفي النهاية، يلتقي الصديقان بعدما شاخا، حيث يجر غولساري عربة تاناباي، وعندما تدنو ساعة احتضار غولساري، تستحضر ذاكرة تاناباي محطات حياته الماضية، المليئة بلحظات الفرح والألم والحب والكره والانتصار والهزيمة، وتنتهي الرواية بموت “غولساري” فيحرره “تاناباي” من نير العربة ويغطيه بعباءته، وبرغم الألم الذي يعيشه تاناباي، فإنّه يستعيد أمله وثقته بالمستقبل.
أبرز ما عالجته الرواية:
في رواية “وداعاً غولساري” قدم الروائي القرغيزي جنكيز إيتماتوف، صورة واضحة عن سلبيات عهد ستالين: البيروقراطية الحزبية الحكومية التي فتكت بأفراد الشعب من شيوعيين وغير شيوعيين، وأساءت لغولساري بطل سباقات الجري وربطته إلى مقدمة عربة نقل ليجرها. وهي ذاتها البيروقراطية التي جاءت بموظفين فاسدين، ففتكت إدراتهم المتخلّفة بمنجزات المجتمع الروحية والمادية، وأحلت محلها منجزات صورية لا وجود لها إلا في تقارير الموظفين الوهمية.
أراد الكاتب أن يعطي للقارئ من خلال موت الحصان أن “تاناباي” هو الآخر أشرف على النهايات ليشير بموته إلى رحيل ذلك الجيل الذي آمن بقيم الاشتراكية وحملها على أكتافه، بيد أنّ فساد الطبقة السياسية ألقت به جانباً فانتهى مُهملاً يثقله إحساسه بالغبن.
وداعاً غولساري هي ملحمة الإنسان المضحي في سبيل قيمه، والعاشق لمفردات طبيعته وبيئته، والمتمسّك ببساطة العلاقات الإنسانيّة ووضوحها وصدقها، وهي تأمّل في علاقة بني البشر بأحد أقدم رفاق حضارتهم الإنسانية ألا وهو الحصان.