هل غيّرت المخدرات مجرى الحرب العالمية الثانية؟

 

 

“اخبار الدنيا” – دانيا يوسف

 

لم تكن الخطط والترسانات العسكرية، العوامل الوحيدة في حسم نتائج الحروب، التي أسست للقوى الدولية التي تحكم عالمنا اليوم، وبالنسبة للمواجهة الأكبر في تاريخ البشرية المتمثلة في الحرب العالمية الثانية فقد غيّرت حالة الجو في بعض الأحيان مجريات المعارك، كما لعبت مخالفة بعض العسكريين لأوامر قادتهم دوراً مفصلياً في نتائج الحرب التي خلّفت أكثر من 60 مليون قتيل حول العالم، لكن تبين وجود عامل آخر لا يقل غرابةً ودراميةً: المخدرات.
يتحمل الزعيم الألماني؛ أدولف هتلر، مسؤولية الحرب العالمية الثانية بلا مُنازع، حيث أطلق شرارتها في آذار (مارس) عام 1938، بغزو جيشه للنمسا، ومن ثم تشيكسلوفاكيا فبولندا، حتّى أرغم بقية الدول الأوروبية على دخول الحرب، كما أرغم الاتحاد السوفييتي، الذي اختار الحياد في بداية المعارك، على القتال إلى جانب الحلفاء، بعد غزو الجيش الألماني للسوفييت، ونَقض هتلر لمعاهدة عدم الاعتداء بين البلدين.
وقد فاجأ الجنود الألمان العالم بشراستهم خلال المعارك التي خاضوها، سيما في بداية الحرب، حيث وُصِفَ الجيش الألماني بالجيش الذي لا يتعب ولا ينام، وبطبيعة الحال، لم تكن العقيدة النازية، التي شَحن هتلر جنوده بها، المُحرك الوحيد لهذا الجيش الجبّار، بل عمد الزعيم النازي، بمساعدة خبرائه، على تطوير عقاقير ومركبات كيميائية مثل؛ الكوكايين والهيروين والميثامفيتامين وغيرها، بهدف تنشيط
فاجأ الجنود الألمان العالم بشراستهم خلال المعارك التي خاضوها جسد وذهنية الجندي، الذي سيحارب لساعات طويلة.
ألمانيا المستيقظة
اشتهرت ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى بتصنيع وتجارة العقاقير المخدرة، وقد كشف تعامل النازيين مع المخدرات، إبان تولّيهم الحكم، تناقضات هذه الحركة؛ حيث عمدت القيادة النازية في البداية، على منع المخدرات وتجريم مستخدميها وإنزال أقصى العقوبات بهم، عملاً بمبادئ الحركة التي تُصور نفسها كحامية للأمة الألمانية، لكنّها فيما بعد، وجدت ضالتها في هذه العقاقير؛ إذ حرص هتلر على إبقاء ألمانيا في أقصى حالات النشاط واليقظة بهدف تلبية أحلامه التوسعية، وعمد إلى تطوير واستعمال المنشطات، خاصة في صفوف الجيش الذي سيخوض حروب ومعارك الزعيم النازي.
وأورد الكاتب الألماني؛ نورمان أوهلر، في كتابه “the total rush”، والذي تحدّث فيه عن النازيين والعقاقير المُخدرة، رسالة نصية كان قد كتبها هاينرش باول، الحاصل على جائزة نوبل في الأدب، لأهله، حيث يرجوهم تزويده بعقار “بريفتين” ليتمكن من الصمود على الخطوط الأمامية للجبهة.
و”البرفيتين” هو مُنشط ينتمي إلى عائلة الفينيثيلامين، طوّره الكيميائي “فريتز هاوشيلد” لصالح الزعيم النازي، حيث يحارب الشعور بالتعب والنعاس، ويساعد في التغلب على الضغوطات النفسية في المعارك، بحسب أوهلر.
وقد أشرف مدير المعهد الفيزيولوجي للدفاع، التابع لأكاديمية الطب العسكرية في برلين؛ أوتو رانك، على اختراع وتطوير العقاقير التي تساعد الجنود في التغلب على النوم والتعب، حتّى أصبح مُدمناً عليها، حيث مكّنته من البقاء مستيقظاً لما يزيد على 50 ساعة في العمل.
ولم تقتصر استراتيجية هتلر على الجنود فقط، بل كان بحاجة إلى رفع إنتاجية بلاده إلى أقصى حدودها، ليتمكن من إمداد جنوده بما يلزمهم في جبهات القتال؛ حيث أدخل عقار “البرفيتين” إلى صناعة الحلويات والشوكولاتة، ونُصحت النساء بتناول حبتين إلى 3 حبات منه يومياً، حتى يقمن بأداء مهامهن على أكمل وجه.
البريفنيتن واجتياح فرنسا
انطلق الاجتياح الألماني للأراضي الفرنسية، في 10 أيار (مايو) العام 1940، وخلال فترة لم تتعد الشهرين، تمكنت آلة الحرب النازية من توجيه صفعة قوية للحلفاء، من خلال اجتياح فرنسا وفرض سيطرتها على عاصمتها باريس، التي استسلمت دون قتال خوفاً من تدمير النازيين لمعالم المدينة، وسط ذهول العالم الذي راقب انتصارات الألمان في معاركهم الخاطفة.
وكانت خطة اجتياح الألمان، لفرنسا عبر جبال “أرين”، قد وضعت وسط تحذيرات القيادة الألمانية العليا من خطورتها، نظراً لحاجة الجنود الألمان للتوقف والراحة أثناء العملية، مما يجعلهم عرضة لهجوم الحلفاء، الأمر الذي دفع هتلر لإصدار مرسوم المنشطات للتغلب على تعب الجنود الذي يُهدّد الخطة برمّتها.
وأصدرت قيادة الرايخ الثالث أوامرها لأطباء الجيش الألماني بصرف عقار “البرفنيتن”، الذي استوحى فكرته الطبيب “فريتز هاوسشيلد” من نجاح استخدام منشطات “البنزدرين” الأمريكية في دورة الألعاب الأولمبية العام 1936، ليحوز على براءة اختراع “البريفنتين” بعد عام.
ونصّت تعليمات القيادة الألمانية لأطباء الجيش الألماني، على صرف حبة واحدة من العقار لكل جندي خلال النهار، وحبتين خلال الليل، وحبة واحدة أو حبتين بعد ساعتين أو 3 حسب الحاجة، ليصل إجمالي ما استهلكه الجيش الألماني العام 1940 إلى 35 مليون حبة من عقار البريفنتين، الأمر الذي منح جنود ألمانيا قوة خارقة مكنتهم من خوض معركة حامية الوطيس، ظلت فيها فرق الجيش الألماني مستيقظة حتى أربعة أيام متواصلة.
تقهقر الألمان وإدمان الزعيم النازي
المثير للاهتمام أنّ تعاطي العقاقير لم يقتصر على جيش هتلر فقط، إذ كان الدكتاتور النازي نفسه مُدمناً بدوره على المخدرات، حيث عانى من آلام حادة في الأمعاء، قبل أن يتعرف على الطبيب “تيودور موريل”، الذي اشتهر بعلاج مرضاه باستخدام “فيتامين عصري”، وقد تعززت الثقة بين هتلر وموريل بعد إصابة الأول بمرض خطير العام 1941 وفشل أدويته القديمة في علاج آلامه، ليجد موريل حلاً سريعاً لمعاناته من خلال حقنه بهرمونات حيوانية وأدوية ذات أثر كبير، حتى وصل به الأمر إلى حقنه بمخدر “أوكودال”، الذي يشكل خليطاً بين الأفيون والهيروين عدة مرات في اليوم، ما جعل هتلر في حالة نشوة دائمة.
وعُرف الزعيم النازي باسم المريض “أ” في أوراق طبيبه الخاص، التي كشف عنها أوهلر في ملفات ووثائق الرايخ الثالث، وفي وثائق الطبيب موريل، الذي ظل مواظباً على تطوير أدوية هتلر المخدرة، بزيادة الجرعة والفعالية، حيث تناقص تأثيرها مع الوقت نتيجة الإدمان، ليبدأ بحقن هتلر بالأكودال المخلوط بجرعات كبيرة من الكوكايين، إرضاءً لرغبة الدكتاتور في الحصول على تأثير سريع يخلصه من ضغط الحرب المحتدمة.
وبطبيعة الحال، لم يؤثر تعاطي هتلر للعقاقير المُخدرة على صحته الجسدية والعقلية فقط، بل انعكس على قراراته خلال الحرب، فبعد قرار هتلر المثير للجدل بغزو الاتحاد السوفييتي، والذي يعتقد بعض المؤرخين أنّه كلفه خسارة الحرب، حيث مُني الجيش الألماني بخسائر فادحة بسبب اتباع السوفييت سياسة “الأرض المحروقة”، والخسائر التي تلتها من “الحلفاء” الذين أعادوا السيطرة على معظم الأراضي الفرنسية، مُستغلين انشغال الألمان على الجبهة الشرقية، بدأت وتيرة تعاطي هتلر للمخدرات تتصاعد بالتزامن مع احتدام المعارك وتقهقر الجيش الألماني، ما دفعه لاتخاذ قرارات تشير إلى “فقدانه التام للواقع”، وفق تعبير الكاتب البريطاني؛ جيمس هولاند في برنامج greatest events of wwii in color الوثائقي، وبدأ هتلر باتخاذ قرارات متخبطة، لم يوافقه عليها معظم قادته العسكريين، إلّا أنّ أحداً لم يكن يجرؤ على مخالفة هتلر، وتُعدّ “معركة الثغرة” التي قامر فيها هتلر على سوء الحالة الجوية للانتصار، أكبر مثال على مدى انفصاله عن الواقع وتأثير العقاقير المُخدرة على قراراته.
وتفاقمت معاناة هتلر مع الإدمان بعد قصف مصنعي الأكودال والبريفنتين، بالتزامن مع ازدياد إدمانه على هذه الأدوية التي لم تعد متوافرة، بالإضافة إلى ضغط الحرب التي يخسرها، ليظهر في آخر أيامه بصورة بائسة وهزيلة في العام 1945، حيث كان يعاني من الأعراض الانسحابية لإدمان المخدرات، قبل أن ينتحر برفقة زوجته إيفا في نهاية المطاف.