نظريات الفلاسفة والادباء بشأن الحب من طرف واحد: أسمى أنواع الغرام لخلوه من الرغبات والأنانيات ومفجر للابداع

 

 

الدنيا نيوز – دانيا يوسف

ما هو الحب؟ سؤال يبدو بسيطا للغاية ولكن إجابته ليست على ذلك القدر من البساطة. فإذا طرحته على عدد من الناس، سوف يعطيك كل واحد منهم إجابة مختلفة تمام الاختلاف عن الآخرين. قد يجيبك أحدهم أن الحب شعور جميل يذهب العقل، وقد يراه أحد آخر شرا مستطيرا يكسر القلب ويترك في الروح ندبات لا تنمحي وبالتالي تجده يحاول تجنب الوقوع في شراكه قدر المستطاع. بينما قد يرى شخص ثالث أن الحب، مثله مثل إلهه كيوبيد، ذا طبيعة مزدوجة يحمل في جعبته السعادة والحزن معا، ويخفي وراء مظهره الرقيق الحالم قوسا وسهما مُخبئين وراء جناحيه يحملان نارا مستعرة تشعل قلب من تصيبه وتحدث فيه جرحا لا شفاء له منه.
وبين هذا وذاك، حاول الكثير من الفلاسفة إيجاد إجابة شافية لهذا السؤال الأبدي دون جدوى؛ إذ أنهم جميعا دائما ما يشعرون بالعجز أمام الحب؛ فهو حين يصيبهم لا يتمكنون من الفرار أو الانعتاق من سعادته وعذابه على حد سواء.
• الفشل في الحب قد يثري الإبداع
في كتابه “المأدبة”، يشبّه أفلاطون إحساس الوقوع في الحب بالرجفة التي تسري في الجسد حين يُصاب بالحمى، ويضيف أن تلك الرجفة هي ما يكشف عن أجنحة الروح ويحررها؛ فتطير بنا بعيدا بينما نشعر بقلوبنا تخفق بقوة حتى تكاد تخرج من صدورنا.
وقد فسّر أفلاطون الإحساس بالخفة الذي يعترينا حتى تكاد قدمانا لا تلمسان الأرض حين نحب بأننا حينها نكون قد استعرنا من إيروس (إله الحب عند اليونانيين القدماء ونظيره الروماني هو كيوبيد) أجنحته التي تُحلق بها قلوبنا بعيدا عن عالمنا الأرضي وتذهب بنا إلى دنيا الأحلام.
قد نظن أنه لا شيء قادر على إعادتنا إلى أرض الواقع الصخرية بعد أن سرت تلك الرجفة في أجسادنا وطارت قلوبنا بعيدا، إلا أنه هناك شيء واحد قادر على تبديل سعادتنا تلك لحزن شديد في ثوان معدودة، ألا وهو ألا يبادلنا من نحبه الشعور نفسه.
يدّعي أفلاطون أن الحب غير المتبادل هو أسمى أنواع الحب لأنه يخلو من الرغبات والأنانية ويتسم بتقبل المعاناة بصدر رحب، وإذا اتفقنا مع أفلاطون في وجهة نظره عن الحب غير المتبادل؛ فمما لا شك فيه أن ذلك الحب سيظل واحدًا من أقسى الأشياء التي قد تحدث للإنسان وأكثرها إيلاما ومأساوية مع تسليمنا بنبله وترفعه عن الرغبات.
• الحب غير المتبادل أسهم بولادة روائع أدبية خالدة:
كان للألم الشديد والجروح الغائرة التي تركها الحب غير المتبادل في نفوس بعض الأدباء فضل كبير على ظهور العديد من روائع الأعمال الإبداعية، ابتداء من القصائد التي كتبها الشاعر الإيطالي فرانشيسكو بترارك في القرن الرابع عشر إلى حبيبته لورا التي رفضت حبه وتزوجت غيره، مرورا بقصائد ويليام شكسبير الرومانسية التي تصف معاناته في الحب، ومعظم أعمال إرنست همنجواي الروائية التي تتضمن العديد من التلميحات والإشارات لتجربة حبه اليائسة لإحدى الممرضات التي قابلها أثناء الحرب العالمية والتي أطّرت حياته وأعماله على حد سواء بإطار شديد الحزن لم يستطع الفكاك منه سوى بإقدامه على الانتحار.
ومن بين الأعمال الأدبية التي تناولت موضوع الحب غير المتبادل، تظل رواية الأديب والفيلسوف الألماني يوهان جوته “آلام فيرتر” هي الدليل الأبرز على أن الرفض والجرح قد يولدان إبداعا عظيما يُخلد في التاريخ باعتباره إحدى أروع كلاسيكيات الأدب العالمي.
إن آلام فيرتر -بطل تلك الرواية- لم تكن سوى آلام جوته نفسه؛ ففي صورة رسائل قصيرة لم تُرسل أبدا إلى الشخص الذي كُتبت لأجله، سطر جوته آلام حبه اليائس لشارلوت بوف، تلك الفتاة ذات الوجه الساحر والعينين اللتين يشع منهما وهج الفتنة والذكاء.
تماما كجوته، كان فيرتر شابا مرهف الحس سريع الانفعال، وكان كثيرا ما يُطلق العنان لقلبه منحّيا قيود العقل جانبا، وقد كانت طبيعته تلك هي ما جعلته يندفع في حبه لشارلوت الفاتنة ويهيم بها عشقا رغم أنه كان يعلم تمام العلم أنها لا تبادله الشعور نفسه لأنها كانت مخطوبة بالفعل وقت أن وقع في حبها.
في صمت أحب فيرتر شارلوت، ولأنه لم يستطع الابتعاد عنها؛ فقد قرر أن يصادق خطيبها كي يتسنى له رؤيتها. وعلى الرغم من أنه قد ظن أنه قد يكتفي بكونه صديقا لها، شعر فيرتر بالنار تضطرم في قلبه يوم عقد قران شارلوت وتأرجحت حالته المزاجية؛ فتارة يرضى وتارة يغضب، وأحيانا يذعن للأمر الواقع، وأحيانا أخرى يثور.
على صفحات روايته، فعل جوته ما عجز عن فعله حين أحب شارلوت الحقيقية؛ فهو قد قرر أن يضع فيرتر الشاب حدا لآلامه برصاصة في الرأس أطلقها على نفسه من مسدس زوج حبيبته. وهكذا، كان الحب المعذب هو الشيء الذي جعل من جوته كاتبا كبيرا يُشار إليه بالبنان، وهو في الرابعة والعشرين من عمره فقط.
• ثلاثية “الحب والسعادة والمعاناة” من وجهة نظر الفلسفة
يقولون إنه ما من تآلف بين الفلسفة والحب، ولكن -في واقع الأمر- كان الحب هو الشيء الوحيد الذي أنزل بعض الفلاسفة من أبراجهم العاجية إلى عالم البشر العاديين. فتلك الحكمة الرصينة والتروي الشديد الذي يمتاز به معظم الفلاسفة غالبا ما استطاعت امرأة جميلة على قدر من الذكاء إطاحتهم بعيدا، كاشفة بذلك أنه ما من بشري حصين ضد الحب، حتى لو كان من قبل من أشد الكافرين به.
“من أي نجم سقط كل منا على الآخر؟”، بهذا السؤال بدأ الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه أول حوار له مع “لو أندرياس سالومي” في أول لقاء يجمع بينهما. وعلى الرغم من أن أي امرأة قد تذوب حين تسمع هذه العبارة، إلا أن عشيقته لم تكن من ذلك النوع من النساء الذي يسقط بسهولة.
لم يكن نيتشه يعلم وقتها أن ل”لو” تاريخا عريضا حافلا بإيقاع الرجال في حبها ونبذهم بعد ذلك دون أن يمسوا منها ولو شعرة واحدة. فكل ما شعر به ذلك الفيلسوف، الذي قد شارف على الأربعين عاما وقتها، أن سهم كيوبيد قد أصاب قلبه وأنه مفتون بحب هذه الشقراء الفاتنة ذات الـ21 ربيعا، وأنه يريد الزواج منها والبقاء معها إلى الأبد. وبالتالي أصبح قلبه لعبة في يديها تقلبه كيف تشاء: فتارة تعطيه الأمل الزائف وتارة أخرى تنبذه وتجرحه.
عرضان للزواج تقدم بهما نيتشه وهو جاث على ركبتيه لتلك الفتاة الماكرة، ولكنهم قوبلا بالرفض فتأكد له بعد العرض الثاني أنه لم يعن شيئا بالنسبة لها أبدا، لقد كان بالنسبة إليها “مجرد برهان على الذوق الجيد”، كما بعث في خطاب إلى صديقته القديمة مالفيدا.
وهنا كان على الفيلسوف أن ينسحب إلى الأبد بينما يتردد على ذهنه بيت من الشعر: “إذا لم يكن لديك المزيد من السعادة لتهدها لي؛ إذن فلن يتبقى لي سوى عذاباتك”. ومضى نيتشه ذلك العاشق المجروح يلعن الحب سرا وجهرا، ولكنه كان مع ذلك يشتاق إليها كثيرا على الرغم مما تراءى له من عيوبها، وأخذ في الانعزال أكثر فأكثر حاملا جرحه كاملا وحده بينما يتحدث إلى أشباح من صنع خياله.
وعلى الرغم من أن نيتشه قد اعترف فيما بعد بأن لقاء سالومي هو “الأكثر خطورة وإثارة للزوابع” من بين كل اللقاءات التي حدثت له في حياته، إلا إنه كان أيضا بالنسبة إليه “الأكثر قيمة والأكثر إرباحا”.
وهنا، يتبادر إلى الأذهان سؤالا مفاده: كيف يمكن أن يكون لقاء فيلسوف كبير بامرأة أذلته ونبذته هو الأكثر قيمة رغم كل ما لاقاه من المعاناة؟ والإجابة هي أنه لولا لقاء نيتشه بسالومي ما كان كتابه الأعظم والأشهر “هكذا تكلم زرادشت” سوف يرى النور. فنيتشه، الذي كان غارقا في أحزانه وخيالاته السوداوية، قد استطاع من خلال معاناته أن “يستكشف المخلفات ويسبر غور الأعماق” وتمضخت معاناته عن زرادشت، حليفه الأخير.
وبتقبله لكل الآلام التي اختبرها في علاقة حبه المأساوية، وجد نيتشه سعادته أخيرا إذ تكشف له أن المعاناة تعد شرطا لا غنى عنه في النضج الإنساني. فهو قد استطاع أخيرا أن يحول حطام حبه إلى معجزة جعلته واحدا من أعظم وأشهر أعلام الفكر والفلسفة وأثبت بذلك المقولة القائلة بأن “إن من يبحثون لا يكتشفون إلا إذا كانوا محمومين أو مطرودين”.
بالنهاية، قد يكون الحب غير المتبادل حقا مثيرا للإبداع، وهو بالتأكيد ألهم الكثير والكثير من الأدباء والفلاسفة لتقديم أعظم أعمال الفكر والأدب إلينا، وقد يبدون هم في صورة المنتصرين الذين تخطوا آلامهم وانتصروا عليها، إلا أن هذا النصر -في الحقيقة- هو نصر أجوف لأنه ما من شيء قادر على شفاء قلب معذب من الحب إلا الحب ذاته، كما قال نيتشه نفسه: “لا نجد علاجا فعالا ضد الحب، في أغلب الحالات، مثل ذلك العلاج القديم الفعال – مبادلته الحب”.