موقع الغراب في الآداب العالمية المختلفة…لعنة النعيق تجعله مبشراً دائماً بالشؤم والموت والخراب

 

 

دانيا يوسف

أفردت الإنسانية مساحة خاصة بالغراب بعد أن عزلته في وجدانها عن باقي الطيور. أحبَت الداجن وغير الداجن منها. ووجدت في كل طير حسنة أو جملة حسنات: صوت البلبل والكنار، أناقة الطاووس وأبهته الملكية، مهابة الصقور والنسور، أناقة الهدهد المتوَّج، قدرة الببغاء على تقليد الكلام، الحمامة ورمزيتها للسلام، أما الغراب؟
يُعَد الغراب في تاريخ الثقافات المختلفة للشعوب رمزًا للتشاؤم والتنبُّؤ بسوء الحظِّ للبشر، وساعد على ترسيخ هذه الخرافات بشأن الغراب صوتُه المنفِّر المسمى بالنعيق؛ حيث صار من المألوف في المأثور الشعبي ارتباطُ نعيق الغراب بالأخبار السيئة، ونذير الموت العاجل للناس.
طغى الموروث الثقافي المتراكم منذ آلاف السنين في رسم صورة منفَرة للغراب. حتى أن المواقف الإيجابية من هذا الطير، كموقف مقاطعة يوكون الكندية التي تُعد الغراب طائرها الرسمي، تبقى أقل من أن تذكر أمام صورته الشائعة.
في القرآن الكريم: الغراب معلِّم للإنسان
عندما قتل قابيل أخاه هابيل وحار فيما يجب فعله بأخيه القتيل، كان الغراب مبعوث السماء ليصبح المعلِّم الأرضي الأول للإنسان، يقول الله تعالى: ‭}‬فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيه * قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ‭{‬.
فالغراب هو المختار من بين الكائنات ليكون “المعلِّم الأول” للإنسان في الدرس الأكبر: درس التعامل مع الموت والحياة بطريقة تحفظ للإنسان كرامته، حتى بعد خروجه من جسده، درس مواراة الجسد الذي أداه الغراب على أكمل وجه أمام ناظري قابيل قاتل أخيه.

الغراب في ثقافة العرب أمثالاً وشعراً:
نسبت الثقافة العربية إلى الغراب دلالات الخراب والموت والشؤم. فقيل “أشأم من غراب” و”أحذَرُ من غراب”، ويُقال: “طار غرابه” أي شاب رأسه.
ومن أمثال العرب: هو أشد سواداً من حنك الغراب، وحلك الغراب، فحنك الغراب منقاره وحلكه سواده.
وأطلقوا عليه لقب “غراب البين”، وربطوا حلوله على بيوتهم عند بينونتهم عنها، أي ابتعادهم عنها.
وله مكانة في الشعر لا تقل مساحةً ولا تختلف مضموناً عما هي عليه في الأمثال . وقارن الشاعر إيليا أبو ماضي بين “الغراب والبلبل”، في قصيدته التي تحمل اسمي هذين الطيرين، فكتب يقول:
قال الغراب وقد رأى كلف الورى
وهيامهم بالبلبل الصّدّاح
لم لا تهيم بي المسامع مثله
ما الفرق بين جناحه وجناحي؟
حكايات بألف لون ولون حول الأسود الواحد:
الربط بين سواد الغراب وتميّز “نعيقه” عن تغريد العصافير من جهة لا سبيل لحصره. ولكن، ولحسن الحظ، ثمة مجالات يُعفى فيها الغراب من هذا الربط، ومنها حكايات كثيرة تتلون فيها صورته وفق الموعظة التي يُناط به إلقاؤها.
ففي قصص “كليلة ودمنة” التي كتبها الفيلسوف الهندي بيديا وترجمها عبد الله بن المقفع إلى العربية ، يظهر الغراب حكيماً وواعظاً في حكايات عديدة منها: “قصة الغراب والثعبان الأسود وابن آوى”، و”قصة الغربان والبوم”.
وتحتل حكاية “الغراب والثعلب” مكانة خاصة بين الحكايا الشعرية التي كتبها الأديب الفرنسي جان دي لافونتين في القرن السابع عشر، وهي من الحكايا التي دخلت الكتب المدرسية في كثير من ثقافات العالم.
الحكاية هي ببساطة حول الثمن الذي يدفعه من يستمع إلى النفاق والمداهنة. ولهذه الغاية، اختار الأديب الغراب كصورة لقباحة الشكل والصوت.
فالثعلب الماكر عندما رأى الغراب يحمل قطعة من الجبنة في منقاره، راح يمتدحه بالقول:
“صباح الخير أيها المعلم غراب
كم أنت وسيم، وكم تبدو لي جميلاً
من دون كذب، إن كان غناؤك يشبه ريشك
فأنت فينيق المقيمين في هذه الغابة.
أمام هذه الكلمات، طار الغراب من الفرح
وللتباهي بصوته
فتح منقاره عريضاً، تاركاً غنيمته تسقط.
أمسك بها الثعلب، وقال: يا سيدي الطيب
اعلم أن كل مدَّاح
يعيش على حساب من يستمع إليه”.
فالغراب في هذه الحكاية هو كائن بسيط يصدِّق كل ما يقال إليه وبعبارة أخرى، إنه طيب القلب يستحق الشفقة.
وفي الشِّعر ذاعت قصيدة الشاعر الأمريكي “إدجار آلان بو”: “الغراب”، والتي احتفى بها النقاد، وصارت تدرس في المدارس، وأصبح الغراب من وقتها رمزا لإدجار آلان بو، وعادة ما يتم تصويره في الصور وغراب جاثم على كتفه أو إلى جانبه.
أيضا المسرحي الأيرلندي “شون أوكاسي” اتخذ الغراب ليكون رمزا أدبيّا له لأغلب قصائده، بل إنه يشبِّه في بعض الأحيان قومه من الثوار الأيرلنديين بالغربان الذين يتحدَّوْن حكَّامهم الإنجليز بذكائهم وحكمتهم.