مناورات الحلف الاطلسي في البحر الاسود وسياسة الاحتواء..!

بقلم العميد مُنذِر الايوبي*

“الثعلب البني السريع قفز فوق الكلب الكسول”، بهذه العبارة فتحت واشنطن الخط الهاتفي الساخن مع موسكو خلال شهر آب 1963 عقب انتهاء الازمة الكوبية، تلافيآ لاي حدث او تفسير خاطيء، فعل ورد فعل يرفع نسبة التوتر قبل الانتقال الى مرحلة التصعيد العسكري بما يؤدي الى استجابة تلقائية متبادلة تفتح صوامع الصواريخ النووية..!

بعد خمسة عقود ونيف وخلافآ لعبارته “من الافضل دائما ان نلتقي وجها لوجه” التي اطلقها الرئيس جو بايدن من على مدخل قصر “لاغرانج” في جنيف يوم 18 آب الماضي قبيل لقائه الاول نظيره الروسي فلاديمير بوتين، لم تفتح قناة الاتصال الفيديوي WebEx Meeting Center بالحد الادنى بين البيت الابيض والكرملين وبقي خط الاتصال المرمز ب “الهاتف الاحمر” منذ زمن الحرب الباردة صامتآ، فيما كانت مياه البحر الاسود تشهد سخونة غير مسبوقة.

تاليآ، استخدم الرئيس السابق دونالد ترامب في سابقة كرست نهجآ واسلوبآ قناة الاتصال “التويترية” Via Twitter العلنية على مستوى الكوكب ااعلان مواقفه الارتجالية احيانآ تجاه قضايا العالم على المستوى الاستراتيجي، كما علاقته مع نظرائه من رؤساء الدول..!

واذ شكل مسلك “تويتر” لاحقآ وسيلة سهلة آنية وفورية لاي قرار او رأي عفوي يعلن، سرعان ما سقط في اول حفرة فيه الرئيس جو بايدن يوم اعلن: إنه يعتقد أن نظيره الروسي فلاديمير بوتين “قاتل”، محذرا من أنه “سيدفع ثمن” أعماله.! مما تسبب بازمة ديبلوماسية دفعت موسكو في حينه الى استدعاء سفيرها في واشنطن “اناتولي انطونوف”..! الى ان عالجت قمة
‏La Grange ولقاء الرئيسين وجها لوجه هذا الامر توقفت اثرها الاتهامات والعبارات المقذعة المتبادلة..

في سياق متصل؛ تجاوز سوء العلاقة الشخصية لم يفضِ بديهيآ الى تفاهمات على المستوى الاستراتيجي والجيوسياسي، اذ بقيت معظم ازمات الكوكب ضمن اطار ادارة الخلاف بالحد الادنى عبر اعتماد الصراعات الاقليمية والحروب الداخلية لغة للتمدد او الانحسار بين الجبارين وفق موازين القوى المحلية لكل ساحة مشتعلة او قابلة للاشتعال وضمن الحدود المسموح بها من كليهما..

توازيآ؛ لم يكن التوغل الغربي- الاطلسي نحو البحيرة الروسية السبب المباشر لرفع درجة التوتر والاقتراب حاليآ من حافة المواجهة العسكرية، اذ ان نمط العلاقة الحذرة و الغير ودية اتى بالتراكم، كان آخرها يوم 18 تشرين الاول الفائت عندما علقت روسيا مهام بعثتها العاملة لدى حلف شمال الأطلسي “NATO” في العاصمة البلجيكية بروكسل، كما عمدت الى اغلاق مكاتب الحلف في موسكو، وذلك ردا على قرار الامين العام للحلف “ينس ستولتنبرغ” Jens Stoltenberg طرد ثمانية من اعضاء البعثة وجهت اليهم تهم التجسس.. فيما اعتبر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف آنذاك “ان الشروط الاساسية للعمل المشترك لم تعد قائمة” مضيفآ “أن موسكو ستعلّق عمل بعثتها الرسمية لدى الناتو في بروكسل، بما في ذلك ممثلها العسكري، اعتبارا من أول نوفمبر/تشرين الثاني الحالي”.

استطرادآ؛ تدهور العلاقات مع الكتلة العسكرية الغربية ترجم باجراء الولايات المتحدة الاميركية الاسبوع الماضي مناورات بحرية مشتركة في البحر الاسود ضمت وحدات من القوات المسلحة البحرية والجوية لكل من بريطانيا، بلغاريا، جورجيا، رومانيا، تركيا وأوكرانيا..!
وجاء بدء العمليات التدريبية بقرار مفاجيء دون تنسيق مباشر او اعلام وزارة الدفاع الروسية مسبقآ ليرفع حدة الخلاف اثر نشر وسائل الاعلام الغربية تقاريرا عن نية موسكو غزو دولة اوكرانيا..
مما حدا بوزير الدفاع الروسي “سيرغي شويغو” بناء لقرار الكرملين الى رفع درجة الاستنفار و الجهوزية القتالية لدى قيادة اسطول البحر الاسود BSF المتمركزة في الطراد “موسكو” الراسي في قاعدة “سيفاستوبول” وهي احدى مدن شبه جزيرة القرم التي ضُمَت الى قوام روسيا الاتحادية عام 2014..

من هذا المنطلق، اعتبر الرئيس الروسي ان دخول القطع الحربية الاميركية والاطلسية البحر الاسود “الفناء الغربي الجنوبي لروسيا” عبر مضيق البوسفور وبدئها مناورات تدريبية عملا عدائيا موجها نحو بلاده وتجاوزآ للخطوط الحمراء..! وفي حوار مع قناة “روسيا-24” نشر السبت الماضي عبر عن موقف بلاده الحاد ذو اللهجة التحذيرية الخالية من التشنج في آن بقوله : “تجري الولايات المتحدة وحلفاؤها في الناتو الآن مناورات غير مقررة – وبودي التشديد على أنها غير مقررة – في حوض البحر الأسود، وذلك ليس فقط بتشكيل مجموعة سفن قوية إلى حد كبير، بل وباستخدام الطيران، ومنه الطيران الاستراتيجي، ويمثل ذلك تحديا خطيرا لنا”.

توازيآ، دراسة المسرح المفترض للعمليات والتدريبات الاطلسية اخرج الجواب الروسي الاولي التقليدي عبر دفع الاميرال “ايغور اوسيبوف” فرقاطات الصواريخ الموجهة الحديثة من فئتي Krivak وSlava لعرض القوة مع مهام المراقبة التوية..! وضمن هامش اجراءات السيطرة ومواكبة تحركات سفن البحرية الأمريكية في البقعة الساخنة لم يتوانَ عن زج الغواصات الهجومية Kalpino ، Krasnodar و Staryy Oskal التابعة للواء الغواصات الرابع في الميدان..!
وضمن الهدوء الحذر المتزامن مع ارتفاع حرارة المياه الباردة كان الرد الاستراتيجي الروسي يعكس حجم الاستعداد للمواجهة العسكرية بحدها الاقصى؛ اذ تمت عملية اختبار صاروخي مضادة للاقمار الصناعية يوم امس دون اي تنسيق مع واشنطن.. وفي حين أعلن مسؤولون أميركيون “أن صاروخا أطلقته روسيا باتجاه أحد أقمارها الصناعية يوم الاثنين أدى لانتشار ما يشبه حقل حطام مداري عرض محطة الفضاء الدولية للخطر، كما سيشكل خطرا على أنشطة الفضاء لسنوات مقبلة”. لم يصدر اي بيان من قيادة السلاح الجو-فضائي الروسي أو من وزارة الدفاع الروسية؛ خبراء اختبار الأسلحة التي تدمر الأقمار الصناعية في مدارها اعتبروا التجربة امرا خطيرآ من خلال تكوين سحب من الشظايا التي يمكن اصطدامها بأجسام أخرى مما سيؤدي لرد فعل متسلسل من المقذوفات عبر مدار الأرض..!

هذا الحراك العسكري الميداني المزدوج بحرا وفضاءً وان كان يوضح حجم المواجهة وقدرات التحرك والرد،
الا ان النتائج تقرش في السياسة التي تترجم المكاسب الجيوسياسية، وبالتالي فان تصريح وزير الخارجية سيرغي لافروف يوم امس الاثنين كافٍ للبناء عليه من قبل المحللين، اذ جاء فيه: أعتقد أن تدريبات حلف الناتو مرتبطة بسعي الولايات المتحدة وحلفائها إلى تصعيد سياسة “احتواء روسيا” مستطردآ “لقد اعتدنا في علاقاتنا مع حلف الناتو على مدار سنوات عديدة على الاستعداد لأية استفزازات”.
وصباح اليوم طفا سيل التصريحات بين وزيري الخارجية الاميركي انطوني بلينكن والروسي سيرغي لافروف حول الاختبار الصاروخي، حيث وصف الاخير تصريحات الخارجية الاميركية «مليئة بالنفاق»ا.

السؤال في هذه العجالة عن المعنى والقصد والأَبعاد في “احتواء روسيا” Containment Policy.؟ وهل الهدف إبعادها عن تحالفاتها.؟ وبالحد الادنى الاهم مع الصين، علما ان الاخيرة هدف اميركي اقتصادي وعسكري استراتيجي. كما ان تحالف AUKUS وهو نوع من اتفاقية امنية بين كل من بريطانيا، اوستراليا والولايات المتحدة والذي اعلن عنه خلال شهر ايلول المنصرم ياتى ردآ على وثيقة التحالف الصيني- الروسي، ولمواجهة النفوذ الصيني في المحيطين الهاديء والهندي..!

بدت لافتة جملة احداث تتوازى زمنيآ قد تصب مرحليآ ضمن دائرة “الاحتواء” المفترضة، اذ سجل اليوم ايضا لقاء قمة افتراضي بين الرئيسين الاميركي والصيني استمر زهاء ثلاث ساعات، وبحكم المؤكد انه لن ولا يتجاوز حد معالجة الخلافات الاقتصادية الساخنة من نوع الاجتياح التجاري الصيني للاسواق و التجسس الصناعي والملكية الفكرية او تصحيح ما امكن منها، قاصرآ عن احداث اي اختراق على صعيد العلاقة الاستراتيجية بين بكين وموسكو..!
كما ان التوتر الحدودي بين دولتي بولندا وبيلاروسيا على خلفية تسهيل الاخيرة حركة اللاجئين والمهاجرين العابرين نحو المانيا واوروبا الغربية وضع ضمن خانة التنسيق بين موسكو ومينسك لارباك دول الناتو الممتشقة لواء حقوق الانسان.. يضاف ايضا الى المشهدية تحريك الجبهة الارمنية- الآذرية مجددآ اثر اندلاع اشتباكات حدودية عنيفة على مدار اليوم بين جيشي البلدين، ليست اجهزة استخبارات تركيا ودول الحلف الاطلسي بريئة منها..!

في المدى المنظور لن ينجح الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرغ في محاولته خفض التصعيد؛ اذ اعلن عن “احتفاظ المنظمة بقنوات الاتصال مع روسيا، ومواصلة النهج المزدوج للعلاقات مع موسكو الذي يجمع بين الدفاع والردع والانفتاح على الحوار، لكن هذا أصبح أصعب بسبب قرار روسيا اغلاق مكتب الناتو في موسكو”.
اخيرآ، على ما يبدو ان فترة جس النبض واختبار القوى وقدرات الردع المتوازن ستطول، وسيواظب قطبي الكوكب على تبادل الرسائل في السياسة والميدان؛ لكنهما سيجيدان حتما قراءتها وترجمة رموزها،
اذ لا مصلحة لاي منهما اللعب بالاستقرار الاستراتيجي والوصول الى نهاية اللعبة Game Over التي تعني الدمار الشامل..!

بيروت في 16.11.2021