محادثات فيينا، الباب موارب..!

بِقَلَم العميد مُنذِر الايوبي*

لا توحي كواليس فندق Grand Hotel Wien االواقع على الاوتوستراد الدائري Ringstrasse، ان المحادثات بين الوفود 4+1 “بريطانيا، فرنسا، روسيا،الصين+المانيا” مع ايران حول اتفاقية عام 2015 المتعلقة ببرنامجها النووي والتي تجري في ارجاء قاعاته تدور في حلقة مفرغة Vicious Ring؛ رغم عودتها الى المربع الاول، اي الى ما قبل اقراره وتعليق العمل به من قبل الولايات المتحدة عام 2018 بقرار من الرئيس الاميركي الاسبق دونالد ترامب.!
واذا كان مؤسس علم التحليل النفسي Sigmund Freud قد درج على تجوله في الشارع عينه ومحيطه وهو احد رواد فيينا القديمة فإن عبارته: “نحن نسعى لأن نتجنب الالم اكثر من سعينا لان نجد السعادة” تبدو شعارآ مفروضآ منطقيآ على المحادثات، تتردد في اذهان الوفد الاميركي المراقب المرابط في فندق Grand Ferdinand، كما انها “المقولة” تنطبق ايضآ في طموح النتائج المرتجاة على الافرقاء المفاوضين..

من جهة اخرى؛ اذا كانت المسافة بين مكان الاجتماعات ومقر اقامة الوفد الاميركي لا تتعدى بضعة كيلومترات، الا ان الخلاف بين ايران والولايات المتحدة حول الاتفاق النووي يقارب في تباعده المسافة الجوية بين العاصمتين 11.512 km. اما الرئيس الايراني حسن روحاني فقد اعلن اليوم ان التقارب في المحادثات بلغ 70% ، وبالمقارنة؛ فان المسافة بين واشنطن وفيينا ايضا تقارب 70%
من تلك الفاصلة بين واشنطن وطهران 7500 km. هذه المقاربة تنطبق الى حد بعيد مع الواقع الجيوسياسي في الاقليم حيث العداء بين اطرافه واحلافه يتجاوز المسافات الجغرافية.
اذ ان ما سيلي النجاح في انجاز اتفاق لوزان جديد مع تغيير المدينة (فيينا) في انعكاسات اقراره وبالتالي تردداته التوصل الى توازن اقليمي استراتيجي جديد، سيشمل الحجم والنوع سواء في الاعتراف بالنفوذ او التفاهم على ضمان امن ومصالح دول المثلث الاساسي “ايران، تركيا، اسرائيل”، مع تبريد نقاط التقاطع (ليبيا، اليمن..) فيما بينها، وخفض درجة سخونة الخطوط المتوازية Parallel (سوريا، العراق، جنوب لبنان-حزب الله..) بمواجهتها، لإنتفاء التقائها لاسباب شتى، ليس التموضع الجغرافي العصي على اي تغيير اقلها، كما الاختلاف في الايديولوجيا والنظم السياسية.!

في سياق متصل؛ احاط الغموض بداية ظروف ونتائج العملية التخريبية ذات النوعية الاستخباراتية التي استهدفت منشأة Natanz النووية الايرانية، بعد اختراق الشبكة الكهربائية الكترونيآ واتلاف تجهيزات هامة، وذلك بالتزامن مع اعلان الرئيس الايراني حسن روحاني عن تركيب اجهزة الطرد المركزي G Force الجديدة ورفع مستوى تخصيب اليورانيوم الى 60%؛ وبالرغم من النجاح في التنفيذ فإن الفشل في تحقيق الهدف المطلوب والغير مباشر المتمثل في افشال محادثات فيينا التي سيكون احدى نتائجها المحتمة رفع العقوبات الاميركية المفروضة على طهران، يؤشر الى تورط جهاز الموساد الاسرائيلي في العملية..! لاحقآ اعلن المتحدث باسم منظمة الطاقة النووية الايرانية “بهروز كمالوندي” عن استهداف المنشأة بعملية تخريبية نفذها متسللين، كشفت القوى الامنية عن احد منفذيها المدعو “رضا كريمي” ايراني الجنسية والذي غادر البلاد قبل وقوع الحادث..

بالعودة الى فيينا، نشط رئيس الوفد الايراني مساعد وزير الخارجية عَباس عراقجي في اجراء محادثات ثنائية مع كل من مندوب روسيا لدى المنظمات الدولية ورئيس الوفد ميخائيل اوليانوف، ورئيس الوفد الصيني “وانغ غون”، لتنسيق المواقف مع تحديد خارطة طريق التفاهم ومضمون الشروط المتبادلة المطروحة. اما رئيس وفد الولايات المتحدة الاميركية برئاسة مبعوث الخارجية Robert Malley فيشارك في النقاشات والمفاوضات بصورة غير مباشرة، حيث يلعب Enrique Mora دور المنسق و الوسيط الاوروبي في نقل الاقتراحات والردود المتبادلة مع الوفد الايراني.!

على ما يبدو ان باب الاتفاق اصبح مواربآ الى حد بعيد غير مقفل ولا هو مفتوح على مصراعيه، بدليل تعليق التفاوض لمدة اسبوع ليتسنى اخذ الوقت الكافي لمراجعة رؤساء الوفود لا سيما الاميركي والايراني قيادتيهما السياسية، مما يؤشر الى تقدم ملحوظ عبر عنه الرئيس روحاني، وان بدا “عراقجي” من خلال تصريحاته اكثر تشددا او تحفظآ، اذ ان الاخير سبق وهدد بوقف المفاوضات في حال تلمسه تضييعا للوقت او طرحآ لشروط تعجيزية لا منطقية؛ لكنه بعد عبور المحادثات عتبة المدخل اعتبر: “إن الولايات المتحدة أبدت علامات جادة لرفع العقوبات عن إيران”. وهذا ما رشح ايضآ عن احد اعضاء الوفد الاميركي، حيث كشف عن ان رفع العقوبات عن ايران بات حاصلآ محتملآ، “اذ ان المفاوضات تتقدم إلى الأمام على نحو بنّاء، ملمحآ الى حاجز اساسي ف الإيرانيين يُطالبون بالحد الأقصى”. ورغم ان الشياطين تكمن في التفاصيل، الا ان المتوقع هو بلورة نتائج ايجابية حاسمة خلال الاسابيع القادمة اي قبل 18 حزيران القادم، موعد اجراء جملة انتخابات متتالية لمراكز متعددة في ايران “رئاسة الجمهورية، المجالس الاسلامية، التجديد النصفي لخبراء مجلس القيادة، مجلس الشورى الاسلامي”.!

يشار هنا؛ ان المطالب الايرانية في المحادثات اختصرت بتراجع واشنطن عن العقوبات، مقابل خفض طهران مستوى التخصيب وزيادة عدد تفتيشات الوكالة الدولية للطاقة الذرية. بمعنى العودة إلى مرحلة مشاركة الولايات المتحدة في الاتفاق النووي دون شروط اضافية علنية..! هذا ما عبر عنه ايضآ مؤخرآ رئيس الوفد الايراني: “ان المحادثات وصلت إلى مرحلة يمكن فيها العمل على وثيقة مشتركة حول العودة إلى الاتفاق النووي”. بالمقابل؛ لا يمكن لواشنطن اهمال البند الذي يضمن الامن القومي لحليفتها اسرائيل، مع طمأنتها سواء عبر شروط مضمرة او سرية، بما يؤمن استجابة لتعهدات وزير الدفاع الاميركي الجنرال Lloyd Austin خلال زيارته الاخيرة قبل عشرة ايام تل ابيب، حيث اكد خلال مؤتمر صحفي عقده مع نظيره “بيني غانتس” ان اسرائيل شريك استراتيجي واي اتفاق جديد مع ايران سيضمن امنها ومصالحها.!

بعقلانية؛ اعلن الرئيس الأميركي جو بايدن “إن خطة إيران لتخصيب اليورانيوم إلى مستوى 60% لا تفيد”، لكنه أعرب عن رضاه بانخراط طهران في المحادثات غير المباشرة بشأن العودة للاتفاق النووي. وبواقعية؛ الارضية اصبحت جاهزة وقابلة للتأسيس لمرحلة جديدة في العلاقات بين واشنطن وطهران قد ترفع في آن معآ درجة رهاب الكوابيس Phobia Of Nightmares لدى العدو الاسرائيلي، لكنها ستساهم في ضبط ايقاع التوتر و تلطيف المناخ الاقليمي الى حد بلورة تفاهمات بدأت ملامحها ترتسم، ليس اقلها ما رشح من محادثات بين مسؤولين كبار من القيادتين الايرانية والسعودية في العاصمة العراقية بغداد، والتي سيكون اولى اهدافها بناء مناخ من الثقة بين الجانبين على اختبار معالجة القضية اليمنية ووقف الحرب المحتدمة هناك..!

أخيرآ لا بد من السؤال: ماذا عن لبنان ودرب الجلجلة الذي يسلكه.؟ واين هو من كل ما يجري.؟
لبنان ؛ على قارعة رصيف انتظار اقليمي بين خيار الانتحار السياسي او المعيشي القاتل. دون حكومة حتى نهاية حزيران القادم؛ له خيار الاذعان لقرارات الخارج. هو عبارة عن بنك نهب استولى على موجوداته المنقولة وغير المنقولة مجموعة من اللصوص “الذين في اموالهم حق معلوم للسائل والمحروم” المعارج(٢٤) لا دراية لهم بالسياسة الحكيمة، ولا بالحكم العاقل الرشيد او بادارة دولة صالحة. من هذا المنطلق يصبح هدم الهيكل حكمة و بناء آخر فعل حق يعلو ولا يعلى عليه..

بيروت في 21.04.2021
*كاتب وباحث في الشؤون الامنية والاستراتيجية.