محادثات جنيف الاميركية الروسية المرتقبة والتحيز الايديولوجي..!

 

بقلم العميد مُنذِر الايوبي*

الخميس 30 كانون الاول 2021 كأن الكوكب توقف عن الدوران خمسين دقيقة، منتظرا انتهاء مكالمة هاتفية بين قطبيه رئيس الولايات المتحدة الاميركية ونظيره الروسي فلاديمير بوتين..! السلك مشدود Slackline بين مرسيين موسكو وواشنطن، كلاهما يسير الى نقطة المواجهة في المنتصف متأرجحا حذرا، استخدام حزام الامان يمنع السقوط، ارتفاع نسبة التوتر Tension يطلق تأرجحا Raisonance يتسبب بانقطاع السلك.. ديناميكية التوازن الاستراتيجي تفرض طاقة اضافية تمنع الارتداد الى العسكري وترفع مستوى الجهد Voltage لتعويض القصور، تلافي الاحتكاك يتطلب طبقة من الشحم الديبلوماسي..

بقدمين عاريتين يقف الرئيس الاوكراني فلاديمير زيلينسكي في وضعية لا يحسد عليها، مراهنا على مباحثات فيينا العاشر من الشهر الحالي، لترجيح كفة مسار تفاوضي مباشر يوفق بين الحفاظ على سيادة بلاده ومتطلبات الامن القومي الروسي، ما يسمح بتفادي كابوس غزو لا يرد.. بالتوازي تعمل الولايات المتحدة الاميركية على توحيد كلمة الاوروبيين خلفها، مع حشد قوة عسكرية مشتركة على خط الحدود البرية الاوكرانية والبحر الاسود، تحت مظلة حلف شمال الاطلسي لتعذر تلبية انضمام دولة اوكرانيا اليه، تلافي انهيار شبكة الاتصال الفيديوي الهاتفي، وخشية فقدان التغطية من محطة الكرملين.!


من جهة اخرى، لن تكون طاولة المفاوضات مستديرة دون راس او جوانب لثنائيتها، اذ ان الرئيس بوتين شخصية محورية تفرض استواءً مع نظيره المقابل الرئيس الاميركي بايدن؛ هو ليس من رموز الميثولوجيا Mythology الروسية كالملك Arthur الانكليزي، ولا الكرملين قلعة وبلاط “الكاميلوت” Camelot نسج الخيال الخالص..!!
تاليآ، أيآ تكن درجة التهديد بين الخصمين اللدودين، فإن طرح المخاوف المتبادلة على المستويين الاستراتيجي والجيوسياسي لايعني ضعفا بل تساوٍ؛ ما يفرض اتفاقآ
ولو بالخطوط العريضة.. التساوي Equal جسر توازن يوصل الى النتيجة لوحدة الاحجام في الكم والتعادل ناتجه صفر. لكنه لا يعني المساواة Equality اذ لا يشترط مبدأ المساواة في علم الرياضيات وحدة (عدد الدول في الحلف الواحد.. اما التكافوء Valence الاستراتيجي العسكري فنوعي تفاعلي تناظري (ضربة نووية تقابلها اخرى مضادة)، واللاعنف خيار الاقوياء؛ في التطابق Congruence اتساق وحدة خصائص ومصالح “صينية – روسية، علاقة” تشابه او توازن تجنب التحيز وقد يستخدم بين المنطق واللامنطق بمعنى التناقض..!

في سياق متصل، القضايا المطروحة بالمطلق امتداد للحوار الاستراتيجي الامني والاقتصادي لقمة بايدن – بوتين التي جمعتهما في جنيف شهر حزيران من العام الماضي 2021.. المستوى السياسي او الديبلوماسي لفريقي محادثات العاشر من الشهر الحالي ستكون برتبة وزيري الدفاع والخارجية، يتبعها بعد يومين 12.01.2022 اجتماع ثان بين روسيا ودول حلف شمال الاطلسي NATO، ثم بينها ومنظمة الامن والتعاون في اوروبا، وكلاهما “الحلف والمنظمة” يضمان في عضويتهما الولايات المتحدة ان لم نقل ينضويان تحت عباءتها.!

استطرادآ؛ توالي الاجتماعات ضمن فواصل قصيرة زمنيآ، يبرز درجة الحرارة المرتفعة على مقياس الصراع العسكري وخفضها التدريجي بالمنظار الروسي يتطلب:
-وقف توسع “الناتو” شرقا دون ملامسة تخوم الحدود الروسية مع اوروبا.
-تقليص الانتشار العسكري النوعي والقواعد العسكرية، -وقف توريد نظم الاسلحة المتطورة الصاروخية والمدرعة لاوكرانيا.
-حظر نشر الصواريخ البالستية القصيرة والمتوسطة المدى 500/5000 km في اوروبا.. بمعنى تجديد معاهدة INF التي وقعتها واشنطن وموسكو عام 1987.
-وقف الطلعات الاستطلاعية لطائرات التجسس، كذلك الاستفزازات العسكرية والمناورات التدريبية الغربية، لا سيما في المدى الحيوي والبحر الاسود.

مرحليآ؛ سيكون حوار الميدان على الحدود الاوكرانية بوضعية التجمد، رغم قرار الرئيس بوتين متابعة الاجراءات المضادة.. مع الاشارة الى ان مسودة مقترحات معاهدة جديدة مع الولايات المتحدة واتفاقية تكتية مع ال NATO من نوع “توازن المصالح” اودعتها واعلنت عنها موسكو، مع منحها مهلة شهر للرد عليها، حسمآ لمطولات حوار دائري مخادع قد يبدأ وينتهي في نفس النقطة دون عبور قوس الازمة..!

استخباراتيآ؛ تقارير ادارة “عين اميركا على العالم” CIA من محطاتها الاوروبية السرية لا سيما في العاصمة الرومانية بوخارست Bucharest تستبعد فرضية الغزو حاليآ، ومن الممكن ان تعتمد موسكو تكتيك القضم التدريجي، رغم حشد القيادة العسكرية الروسية في منطقة النزاع مع “كييف” اكثر من ثمانية الوية من المشاة المؤللة بالاضافة الى الوية الصواريخ والحرب الالكترونية.. بالمقابل، رغم ادانة واشنطن وقيادة الحلف الاطلسي تحركات الجيش الروسي، الا انهما لن ينزلقا الى حرب ولو محدودة للدفاع عن اوكرانيا، وسيكون الرد بفرض عقوبات اقتصادية مشددة، هذا ما حذر منه الرئيس بايدن خلال محادثته الاخيرة مع نظيره الروسي؛ في حين كان جواب الاخير ان روسيا في العقل الجلي استراتيجيا تتعامل مع اوكرانيا كرقعة جغرافية باعتبارها المدى الحيوي، والخيار العسكري قرار متخذ في حال تهديد الامن القومي الروسي..!

في الاضرار الجانبية، نوع من المشاغلة فتحتها القوى الغربية او المناوئة يوم اول من امس في كازاخستان، اثر اندلاع احتجاجات مناهضة للحكومة شملت اعمالا تخريبية من شغب واحراق مباني حكومية استخدم فيها الرصاص الحي ما دفع الرئيس قاسم توقاييف الى طلب الدعم الروسي. وبالامس دخلت القوات الروسية العاصمة (نور سلطان) انفاذا لمعاهدة الأمن الجماعي التي اقرت قيادة موسكو لتحالف يضم روسيا،كازاخستان، بيلاروس، طاجيكستان، وأرمينيا…

في قراءة اضافية؛ تبدو مهلة الشهر التي اعطتها موسكو للتحالف الاميركي- الاطلسي تلبية لشروط مرمزة باللغة الصينية، اذ ان مشاركة الرئيس بوتين في افتتاح دورة الالعاب الاولمبية الشتوية التي ستقام خلال شهر شباط القادم في العاصمة بكين، ستترجم بالاعلان عن تحالف اكثر انصهارا عبر رفعه الى مستوى جديد من التعاون العسكري والاقتصادي وتوسيعه ليشمل التكنولوجيا والمالي؛ وذلك بموازاة مقاطعة ديبلوماسية اميركية اعتبرها الرئيس الصيني “شين جين بينغ” من نوع “التحيز الايديولوجي” Ideological Bias والنوايا الخبيثة..

اخيرآ؛ اوكرانيا ليست هدفا وحيدا للقناص الروسي، ووضع اليد عليها مباشرة او بصورة غير مباشرة يعني تمهيد لتغيير الوضع الجيوسياسي في الشرق الاوروبي؛ وبالتالي يصبح الامن الاوروبي بين ازدواجية مؤثرة روسية- اطلسية، كما الاقتصاد المعتمد على امدادات الغاز الروسية من انابيب North Stream 1-2. والاكثر اهمية ايضا تكبيل الولايات المتحدة وحلفائها في ال NATO من التمدد نحو دائرة النفوذ الروسي جورجيا ومولدوفا، مع فرض ابقائها صواريخها الباليستية المتوسطة والقصيرة المدى خارج القارة العجوز..!

——————————

بيروت في 07.01.2022