لبنان غابةٌ تحللت فيها بقايا الدولة وسادت شرائع “الحكام اللصوص” و”العبيد المقيدين”

بقلم : عباس صالح*

” دوام الحال من المُحَال”.. عبارة تستخدم عادة لبث الامل إيجاباً في نفوس المقهورين والمظلومين والتعساء والفقراء وسواهم ممن ينتظرون تبدل أوضاعهم الى ما هو أفضل من حالهم المُعاش، وهي كثيراً ما تترك ارتياحاً لديهم بأن الآتي سيكون افضل ، وبأن الدنيا ستضحك لهم  والتعاسة ستبارحهم، وان الحياة ستكون في الغد هنيئة .

أما في لبنان ، فقد صارت العبارة نفسها، مخيفة بحد ذاتها، لما تعنيه من تطور الاحوال  نحو الأسوأ حتماً، لأن كل ما يجري يؤكد على أننا نسير طائعين بخياراتنا الذاتية نحو الكابوس الافظع والمشهد الاكثر سواداً وقتامة، وأننا نمضي نحو الانهيارات الكبرى في كل المنجزات التاريخية، والسقوط المدوي لما تبقى من مؤسسات الدولة،  وبالتالي فقد صار أمل اللبنانيين اليوم منحصراً بدوام الحال، والابقاء على المشهد المفجع الذي وصله البلد، وحصر الخسائر بالمحقق منها حتى الآن، حتى لا تنزلق الامور باتجاه الهاوية المؤكدة ويتحلل الوطن وينفكك الى ذرات وجزيئات سرعان ما ستطير في الهواء مع هبوب أول عاصفة!.

لماذا هذا الاستنتاج “المشؤوم”؟ وما هي أُسُس الاستقراء التي تؤدي الى مثل هذه الخلاصات المخيفة؟

أي نظرة لواقع الامور في لبنان، ومعاينة تشابكاتها ستؤدي الى هذا الاستنتاج، خاصة وان كل ما جرى سابقاً ويجري اليوم يؤكد على ان الشعب اللبناني نفسه هو صاحب هذه الخيارات السوداء التي أكد عليها في كل استحقاقاته المصيرية، وانه هو الذي يمضي بها بعناد وإصرار كبير،  غير آبه بنتائجها مهما كانت مدمرة للكيان، وذلك من خلال  تمسكه بالطبقة الحاكمة التي فاحت روائح فسادها في كل الارجاء، ولم يعد مخفياً على أحد انها هي التي سرقت خزائن الشعب والدولة، وتقاسمتها علناً على رؤوس الاشهاد، ومن دون ان يرف لها جفن، او تحسب حساباً لغضب الشعب الذي خبرته جيداً، وتمكنت من تخديره، ب”المورفينات” الطائفية  والمذهبية “الخلاقة” حتى جعلته أسيراً لأطماعها وجرائمها المختلفة في سرديات متباينة احياناً لكنها تتقاطع على مشهد واحد يربض في المخيلة هو صور من روايات العبيد المقيدين بسلسلة من أغلال يمسك بها قاتلهم “المحبوب”،  ويجرهم “بفرح” نحو الهاوية حيث يلقي بهم في الجحيم او في المقابر الجماعية!..

ومع ان هذا المشهد تأنفه وترفضه حتى الأنعام التي تساق الى مذبحها، لذلك تراها تعاند وتقاوم المسير وتحاول التفلت من جزارها بأي طريقة والهروب من مصيرها الحتمي، لكن ما يؤكد على ان الشعب اللبناني، او الشعوب اللبنانية كما يقال ، تتمسك بغالبيتها الساحقة  بزعمائها – او جلاديها – الذين يشكلون مجتمعين طبقة حاكمة تجتمع رغم تبايناتها على تقاسم ثروات الشعب واموال الدولة، ولا تختلف الا على احجام التحاصص بين مكوناتها، وتتراشق علنا بشتى انواع الفضائح من العيار الثقيل،  وتهول على أتباعها بالويل والثبور وعظائم الامور إن وافقت اللبناني الآخر، او تماهت معه، او فكرت بالانقلاب على عبوديتها. وعند هذه النقاط تجتمع الطبقة الحاكمة على تبايناتها، وتتخذ القرار بمواجهة “التغيير المنشود” بكل ما أوتيت وتحت قرار مُوحَّد، وتنصهر كل الجبهات في خندق واحد، في مجابهة الخطر المحدق بممالكهم المتعددة.

في 17 تشرين من العام 2019 كانت جذوة ثورة واعدة قد اشتعلت بين جنبات مجتمعات العبوديات الطائفية قبل ان يتنبه لها اركان الطبقة الحاكمة ويدركون خطورتها على مكتسباتهم اذا استمرت وتواصلت بمنوالها التوحيدي، فعملوا جميعاً بقلب رجل واحد على إخمادها من داخلها، عبر تحويرها الى ثورة فئوية طائفية تتبنى مطالب بعيدة كل البعد عن اوجاع اللبنانيين وأسباب قهرهم الحقيقية، فشتتوها الى ثورات متعددة تطرح شعارات متعددة ومتباينة، وحمَّلوها طروحات سياسية وإشكاليات أكبر منها ومن كل اللبنانيين، حتى تسنى لهم قضمها والقضاء عليها ولم يُبقوا منها الا بعض صور وبقايا مشرذمة وصلت الى الندوة البرلمانية على شكل صرخة من بعض اللبنانيين المقهورين والمطعونين في صميم كراماتهم، بينما أعادت الغالبيات الساحقة، بل السواد الاعظم من القطعان الطائفية، التجديد للطبقة الفاسدة، وذهب بعضهم في ردة الفعل الى ما يوسع نفوذ زعمائهم الاعضاء في تلك الطبقة، والتي بادرت حال فوزها الى التصرف بمنطق التحدي والكيدية والقهر في اعلان تحاصصها مجدداً، وتكريس ثوابتها، في التماسك والحماية لبعضهم البعض، كما حماية اللصوص المعلنين. ومضت نحو المزيد من السرقات العلنية وتقاسم ما تبقى من أموال كانت لتسد بعضاً من رمق اللبنانيين، وتقيهم شر العوز والجوع، وقد ترافق ذلك مع إجراءات كيدية وانتقامية من اللصوص الجدد الذين كانوا دخلوا النادي السياسي بشعارات كبيرة عنوانها نظافة الكف والحرب على المنظومة الفاسدة، واذا بهم يُفضحون من أول إجراء لهم في السلطة بأنهم  أكثر جوعاً، واكثر فساداً ولصوصية، وأكثر كذباً ومراوغة مفضوحة، وأكثر استئثاراً بالسلطة ومغانمها، وهم يختلفون مع اللصوص الحاكمين على نقطة واحدة هي انهم يريدون كل شيء ولا يريدون التقاسم مع أي جهة أخرى.

وهنا عادت المنازلة الى سيرورتها الاولى بين اركان الحكم من الطبقة “الكلاسيكية” الاولى المتماسكة على تنوعها بأدنى حدود التقاطع عند مصالحها المالية، من جهة ، في مواجهة الجهة التي أثبتت كل الوقائع انها اكثر فساداً ولصوصية  وأرخص بأضعاف الاضعاف من الطبقة الاولى، كما انها  لم تستحِ في إعلانها بأنها تريد كل شيء لنفسها، وانها لا تقبل حتى بمنطق المحاصصة مع سواها. وهذا ما جعل الجميع يدخلون الى حلبة المكاسرة التي لم تنتهِ الا بإنهاء آخر رمق وآخر وجه من وجوه الحياة في الوطن الصغير.

إصرار اللبنانيين او غالبيتهم الساحقة على إعادة إنتاج الطبقة السياسية نفسها وبزخم أقوى من السابق في بعض القطعان، هو الذي أطاح ببقايا الدولة ولم يُبقِ فيها أثراً لديمومة الحياة او أثرا لدولة بل جعل كل ما فيها خراباً بخراب، وهو الذي كرَّس صورة لبنان الجديد التي باتت أشبه ما تكون بصور بؤر من غابات احرقها سكانها العبيد، بناء لرغبات اسيادهم الذين اثبتوا بكل المراحل انهم عصابات حاكمة تحترف الاجرام ومص الدماء، وهو ايضاً ما يؤكد بما لا لُبْسَ فيه، على ان اللبنانيين انفسهم هم الذين ارتضوا لوطنهم هذه النهاية الحزينة، وهو جعل من لبنان ملحقاً بصورة الغابات التي لا قانون يحكمها، ولا دستور يضبطها، ولا شريعة تنفذ فيها سوى شرائع الغاب حيث القوي يأكل كل الضعفاء. وكِبَار القوم يدوسون على صغاره.

——————————-

*صحافي، رئيس تحرير “اخبار الدنيا”.