كيف تحول بائع اللبن المتجول إلى المتاجر وصار جزءاً من نوستالجيا الماضي

“الدنيا نيوز” – دانيا يوسف

في الأفلام هناك دائما “بائع لبن” يطرق الأبواب… نتعرّف معا كيف بدأت الحكاية تاريخيا
قبل عشرات السنوات كان هناك طارق دائم يدق أبواب المنازل في الكثير من دول العالم مع إشراقة شمس كل يوم جديد، وهو بائع اللبن الطازج الذي عرفه سكان الحي واعتبروه جزءا لا يتجزأ من تفاصيل حياتهم اليومية، مثله مثل ساعي البريد.
لكن بمرور الأيام كثرت محلات بيع منتجات الألبان في الشوارع، إلى جانب ظهور اللبن المبستر الذي تصل فترة صلاحية استخدامه إلى ست شهور، وتأثر بائع اللبن بهذا التغير فلم يعد يحظى بزبائنه الكثيرين مثلما كان في الماضي، وأصبح من النادر رؤيته في الشوارع ليتحول إلى جزء من نوستالجيا الماضي، لكن مؤخرا أُطلقت بعض المشاريع لإيصال اللبن إلى المنازل يوميا بطريقة عصرية، وسنتعرف سويا إلى هذه الرحلة التاريخية من بدايتها إلى نهايتها.
• انشغل البشر في أعمالهم فغابت أبقارهم:
ظهر بائعو اللبن في أواخر القرن 18، فقبل ذلك كان لكل عائلة البقرة الخاصة بها، وفي بعض الأحيان أكثر من بقرة. ومع ظهور الثورة الصناعية انتشرت المصانع في المدن والقرى، ولم تعد تتوفر بسهولة أماكن تعيش فيها الأبقار، فقد أصبحت المنازل أصغر وأكثر تقاربا من بعضها البعض، وأضحى الناس أكثر انشغالا بأعمالهم.
بالإضافة إلى ذلك خلت الكثير من المنازل من أجهزة التبريد، ونظرا لأن الحليب يعد منتجا قابلا للتلف بسرعة، وفي الوقت نفسه غير متاح في المتاجر التي تبيع السلع الغذائية الأخرى مثل اللحوم والخبز، كان تسليمه يوميا الطريقة الأكثر أمانا وفعالية.
والنتيجة الحتمية لما سبق الاتجاه لشراء الحليب من مزارعي الألبان المحليين، وحسبما هو مُسجل فإن أول تجارب توصيل الحليب إلى المنزل حدثت في ولاية فيرمونت الأمريكية عام 1785، ونتج عن تزايد الأسر المحتاجة لخدمة إيصال الحليب لباب المنزل، ظهور مزارع الألبان بشكل تجاري، وكان بائع اللبن يأتي كل صباح بصحبة برميل معدني مملوء بالحليب، ويأخذ أي إناء متاح في المنزل لملئه.
• الظروف التي خضعت لها أعمالهم:
من الممكن أن ينطبق الشعار غير الرسمي لمكتب البريد الأمريكي الذي يقول: “لا الثلوج ولا المطر ولا الحرارة ولا ظلام الليل يمكن أن يعيق سعاة البريد عن إنهاء جولاتهم بسرعة”، على بائعي اللبن أيضًا؛ فقد عملوا في أقسى الظروف البيئية، ولم يوقفهم شيء عن إيصال الحليب إلى زبائنهم في الموعد المحدد.
• زجاجة اللبن والبدايات:
سُجلت أول براءة اختراع لزجاجة الحليب الزجاجية عام 1878، وبعد ذلك بعام بيع الحليب لأول مرة فيها، لكنها ظهرت بعيب غير هين وهو أنها لم تكن مُغطاة، مما سمح للعصافير الجائعة في الصباح أن تستقر على فوهة الزجاجة، وتأكل القشدة.
أدى ذلك بالطبع لانزعاج الزبائن فخضعت الزجاجة لعملية تطوير عام 1884 بإضافة غطاء، وبحلول عشرينات القرن العشرين؛ تنوعت أشكال زجاجات اللبن، إلى جانب استخدام تقنية الحفر لكتابة العلامات والشعارات التجارية، ولمزيد من الأمان أصبح الغطاء عام 1930 من الورق المقوى، الا أنه لم يكن أفضل اختيار من ناحية مستوى النظافة المطلوب، فاستُبدلت به بعد خمس سنوات رقائق الألومنيوم.
• فكرة تسويقية… إحضار البقرة إلى حديقة منزل العميل
خلال أربعينيات القرن التاسع عشر، ظهرت فكرة تسويقية لإحدى شركات مزارع الألبان باسم “Fresh From the Teat”، وتعني أن الحليب طازجا من البقرة مباشرة إلى المستهلك، وتقوم على إحضار بائع اللبن البقرة إلى منازل العملاء، واستخراج الحليب منها في حدائقهم، لكن ظهرت عقبة تمثلت في أن الأبقار أصابها القلق نتيجة هذا الوضع، ولم تعد تنتج حليبا مثلما كان الوضع في المزرعة، ما أدى في النهاية إلى وقف الحملة التسويقية للأبد.
بعد ذلك لم تصبح الأمور وردية فقد تصدرت مشكلة أخرى الموقف، وهي أن اللبن في الأيام الحارة يكون معرضا للتلف بسهولة، وكان الحل اتباع الوسائل التقليدية للتبريد مثل إضافة الثلج بجوار براميل اللبن، بالإضافة للحرص على سرعة التسليم.
من الآثار التي ما زالت موجودة في بعض المنازل بأوروبا وأمريكا، صندوق زجاجات الحليب المُعلق على الشرفات، وفي بعض الأحيان كان موقعه في جانب المنزل، ويأتي بائع اللبن كل صباح ليضع زجاجات الحليب الطازج داخل الصندوق ويأخذ الزجاجات الفارغة ويُحصل الثمن، وقد تنوعت الوسيلة التي كان يوزع بها الزجاجات، فقبل اختراع السيارات تمثلت في عربة يجرها حصان، أو عربة أصغر يسحبها البائع بنفسه، لكن بعد تطور صناعة السيارات حلت الشاحنات محل تلك العربات.
• الحليب المبستر والكرتون والبلاستيك
أصبح من المعتاد مع الدخول في فترة الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين وجود ثلاجة في كل منزل، وكان ذلك يعني أن الناس لم يصبحوا محتاجين إلى صناديق الثلج التي كانت تحفظ الحليب حتى يصل إليهم؛ لقدرتهم على حفظه في ثلاجات منازلهم بكل سهولة، وأتت محلات البقالة بثلاجات تبريد ضخمة لحفظ الأغذية القابلة للتلف، وهو ما أدى إلى بدء انخفاض الحاجة إلى بائع اللبن.
وطرأ أول تغيير على زجاجة اللبن في أواخر الستينيات ببريطانيا، عندما اُستبدلت بعبوات الحليب البلاستيكية الشفافة المُصنعة من البولي إيثلين بأحجام مختلفة، وأصبح بائعو اللبن مع أسعار محلات البقالة المنخفضة، غير قادرين على المنافسة بقوة، وسرعان ما سيطرت المحلات على أسعار الحليب، لتتضاءل أعداد بائعي اللبن وتختفي معهم زجاجاتهم المميزة.
نقلة أخرى ساهمت فيما حدث وهي انتشار البسترة على نطاق واسع، مما ساهم في زيادة فترة صلاحية اللبن، وكانت أول ولاية تُفعّل بسترة الحليب هي ولاية ميشيغان الأمريكية عام 1947، وظهرت قبل ذلك الشاحنات التي تحمل خزانات الحليب عام 1931، وكانت سعتها في البداية ألف جالون، واليوم ازدادت السعة لتصل إلى ثمانية آلاف جالون من الحليب، تُؤخذ من مزارع الألبان إلى المصانع لبسترتها وتعبئتها، ثم توزيعها على محلات البقالة.