قمة بايدن- بوتين؛ تنظيم الخلاف وتكريس الاختلاف.!

بقلم : العميد منذر الايوبي*

بفارق دقيقتان فقط دخل موكبهما المصفح مكان انعقاد القمة الثنائية التي ستعقد بينهما باحة قصر La Grange الواقع على ضفاف بحيرة Leman وسط العاصمة السويسرية جنيف؛ المصافحة بين الرجلين كانت بدرجة حرارة متدنية قاربت الصفر، اما الابتسامة فاكثر من مصطنعة ارتسمت على وجه كليهما، كاني بهما قد أخرجا توآ من متحف Madame Marie Tussauds اللندني الشهير المخصص والذي يضم تماثيل الشمع لمشاهير العالم..!
وفق البروتوكول كان اللقاء الاول بحضور الشاهد الملك رئيس الدولة المضيفة Guy Parmelin تلا ذلك دخول الرئيسان الاميركي جو بايدن والروسي فلاديمير بوتين سوية قاعة المكتبة الكبرى حيث عقدا على مدى خمس ساعات اجتماعين متتاليين الاول بحضور وزيري الخارجية الروسي سيرغي لافروف والاميركي انطوني بلينكن، اما الثاني ف بمشاركة شخصيات رفيعة من الادارة السياسية والقيادة العسكرية لكلاهما.

من جهة اخرى، كانت الايجابيات متعددة شكلآ ومضمونآ، اولها التوافق على عقد الاجتماع بما يعكس مقدمآ حسن النوايا، وثانيها من منطلق ان الرئيس بايدن في اداءه السياسي يختلف عن الرئيس ترامب المتميز بقراراته العفوية، فإن النقاش كان عقلانيآ معمقآ بعيد عن الارتجالية بهدف تحقيق الاستقرار الاستراتيجي، مع بحث عن حلول متوازنة لقضايا الكوكب المعقدة والمتشابكة جيوسياسيآ، ضمن خطين متوازيين: مجالات التفهم والتفاهم، ونقاط الخلاف والاختلاف ذات التوتر العالي، او تلك الساخنة حيث قواتهما تدوس مضاربها على خلفية تضارب المصالح والاستراتيجيات ألآنية والمستقبلية.


إستطرادآ ورغم صعوبة الانسجام في المدار الشخصي، نتيجة تصريحات الرئيس بايدن السابقة الخارجة عن المعايير الديبلوماسية، وردود الكرملين عليها في عبارات من نفس النوع والعيار ، فالاجتماع باهميته تاريخي بكل المقاييس، مثمر بناء في المختصر يبنى عليه، ايآ يكن قطر دائرته الايجابية..!
في سياق متصل؛ كان لافتآ وحمل تفسيرات متنوعة عدم صدور بيان مشرك بنتيجة القمة، كما لم يدرج جدول اعمالها اصلآ والمعد مسبقآ عقد مؤتمر صحفي مشترك يحضره مراسلي وسائل الاعلام العالمية على اعتياد في هذا النوع من القمم الهامة؛ اذ انصرف كل منهما لعقد مؤتمره احاديآ وتضمينه العبارات العاكسة للايجابيات المخففة المحققة او المفترض تحقيقها. اما التبريرات في هذا السياق فكانت من نوع ارضاء حلفاء الولايات المتحدة الاوروبيين تثبيتآ لقرارات استمرار الضغط المتدرج على موسكو ردآ على استفزازاتها المتكررة، وفق مقررات مؤتمر بروكسل لقادة حلف شمال الاطلسي. اضافة على ما يبدو رغبة الرئيس الاميركي لتجنب لياقات الليونة الواجبة في الردود على الاسئلة والعبارات المستخدمة على التعليقات والمفترض تبادلها وجهآ لوجه، بما قد ينعكس فائضآ غير محقق او غير مطلوب في الايجابيات. ومن هذه الزاوية اعتبر وزير الخارجية الاميركي السابق مايك بومبيو “ان الرئيس بايدن اظهر ضعفآ لعدم استعداده عقد مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره بوتين” وذلك في تصريح ادلى به لقناة فوكس نيوز الاميركية.

على صعيد آخر؛ من خلفية تصريحات سابقة فان الرئيس بايدن بعتبر من خلال مشاركته الثلاثية الابعاد وخلال اسبوع واحد “قمة مجموعة السبع، لندن- قمة حلف NATO، بروكسل” انتهاء بقمة جنيف، حققت هدفه المعلن بعودة الولايات المتحدة الى الساحة الدولية مع اعلان التزامها الاتفاقيات الدولية التي سبق وانسحب منها الرئيس ترامب خلال فترة ولايته.. بالمقابل، وفق استراتيجية الرئيس بوتين ذات الاولوية المتمحورة حول مسألة جوهرية تتعلق بعودة روسيا قطبآ ثانيآ ذو ندية مع القطب الاميركي الذي مارس أحادية في حكم العالم وادارة شؤونه اثر انهيار الاتحاد السوفياتي، فان اجتماع القمة سجل نقطة اضافية لهذا الهدف لا بل كرسه..!

تاليآ؛ اذ اثبتت روسيا نديتها كما ثبتت نفسها قطبآ دوليآ لا اقليميا، فإن تبديد القلق بين الثنائي اصبح عاملآ ضروريآ متلازمآ مع بناء الثقة كمدماك ثابت للحوار الشامل بدءآ من تحييد السلاح النووي عن الصراع الدولي- تخفيض ترسانة الاسلحة الاستراتيجية-الازمة الاوكرانية والتزام اتفاقية Minesk مع عدم تجاوز الخط الاحمر المتعلق بانضمام Kyiv الى حلف شمال الاطلسي- النشاط الروسي في القطب الشمالي وعدم عسكرته- العودة الى الاتفاق النووي مع ايران وان معدلآ- وقف الحرب في ليبيا- انجاز الحل السياسي في سوريا والاقليم الكردي- الوضع الامني في العراق- النفوذ الايراني في الاقليم- نشر القوات الاميركية وسط وشرق آسيا بالتزامن مع انسحاب مرن وخفض لحجم القوى في الشرق الاوسط بالتوازي مع خروج متدرج من افغانستان- احتواء القوة الصاعدة الاقتصادية والعسكرية للصين، مع تلافي اللجوء الى سياسة الاحلاف روسيا والصين بمواجهة الولايات المتحدة واوروبا- مكافحة الهجمات والتصدي للحرب السيبرانية Cyber War- رفع العقوبات الاميركية عن الشركات الروسية لا سيما تلك العاملة في مجال امدادات الطاقة نحو اوروبا (السيل الشمالي)North Stream 2-

أخيرآ، جو من التفاؤل الحذر خيم بعد القمة سيتردد صداه لوقت طويل.. و في رمزية لماحة مقصودة؛ تذكر بمؤتمر يالطا الذي غير وجه العالم بين فرانكلين روزفلت و جوزيف ستالين عام 1945.! كذلك فإن مقعدان من الجلد الوثير الاحمر اللون جلس على كل منهما الرئيس بايدن ونظيره بوتين يتوسطهما مجسم خشبي عتيق للكرة الارضية برسمها الجغرافي الحالي، تدور على محور نحاسي غير صدأ، ربما دخل عاملآ مساعدآ في الحوار مسهلآ للمباحثات وتحديد التموضعات الشائكة، سعيآ لتنظيم الخلاف بسلاسة على خلفية تلاقح الافكار ومجرى الحلول أَ مرحلية كانت ام دائمة، مع ازدواجية اعتراف بالاختلاف والخصوصية تلافيآ لحرب باردة جديدة ..!

بيروت في 21.06.2021
*كاتب وباحث في الشؤون الامنية والاستراتيجية