فلسفة السعادة عند زوربا اليوناني.. حين ترضى الروح يقنع الجسد بالقليل

 

 

“الدنيا نيوز” – دانيا يوسف

ولد الأديب اليوناني نيكوس كازانتزاكيس عام ألف وثمانمئة وثلاثة وثمانين في جزيرة كريت اليونانيّة. درس القانون في أثينا ثم رحل إلى فرنسا لدراسة الفلسفة. وابتداءً من عام ألف وتسعمئة واثنين عشرين تنقّل بين أصقاع العالم وبلدانه، كفرنسا وألمانيا وروسيا وأسبانيا وأرمينيا والقوقاز، وسكن فترة في صحراء سيناء كما عاش سنوات في اليابان والصين، وأقام فترة في مدينة القدس. طرق كازانتزاكيس مختلف مجالات الأدب والفلسفة، فكتب الروايات الطويلة ولعل أشهرها رواية “زوربا اليوناني” موضوعنا الحالي، كما كتب روايات شهيرة أخرى “كالمسيح يصلب من جديد” و”الأخوة الأعداء” و”الحديقة الصخرية” و”تقرير إلى غريكو” وغيرها، كما كتب العديد من القصائد الطويلة، وترجم العديد من المؤلفات الفكرية من الفرنسية إلى اليونانية وبالعكس، هذا فضلاً عن مسرحياته وما كتب ضمن أدب الرحلات.
توفي نيكوس كازانتزاكيس عام ألف وتسعمئة وسبعة وخمسين.
أحداث الرواية:
محور رواية “زوربا” يدور حول شخصيتين من عالمين مختلفين: الأولى شخصية “باسيل” راوي الحكاية، وهو كاتب إنكليزي نصفه يوناني، يرث منجماً للفحم الحجري في جزيرة كريت اليونانية. والشخصية الثانية هو زوربا، العامل العجوز البسيط الذي يبحث عن عمل. يقرر باسيل أن يغير نمط حياته، فيسافر الى كريت ليتعرّف إلى أملاكه ويفتتح المنجم القديم. وإذ به يقوم برحلة يكتشف فيها ذاته ويتحرر من أوهامه الشخصية وذلك على يد زروبا، ويجري ذلك بالحوار بينهما تارة وبالشجار تارة. باسيل القادم من مجتمع مرموق ونخبوي، سيتعرّف خلال محاولته استثمار المنجم على مجتمع مغاير لما ألفه، مجتمع تحكمه تقاليد صارمة، تصل حد القسوة، ومن جهة أخرى هو مجتمع قريب من الطبيعة بل يكاد يندمج معها. في وسط هذه البيئة الجديدة سيقف باسيل مندهشاً أمام فلسفة زوربا في الحياة وخبرته العميقة التي اكتسبها من خلال رحلاته المتعددة في اليونان ومقدونيا وروسيا وغيرها. ويجد باسيل أن الكتب الكثيرة التي قرأها وكتبها لا تكفي لتفسير تفاصيل العلاقات الإنسانية والرغبات والتوجهات المختلفة، فيما ينجح زوربا ببساطته وتعلّقة بمفردات الحياة والطبيعة أن يقدّم له الكثير من الإجابات والحلول.
فزوربا هو رجل عاشق للحياة بتفاصيلها المختلفة، ولكن انغماسه المفرط في تفاصيلها الحسية ولذّاتها العابرة، لا يمنعه من الاستغراق في الاحتياجات الروحية لها، وذلك عبر التأمّل في كل شيء روحاني، فهناك صوت أمواج البحر الهادرة، أو زقزقة عصفور، حتى الصخور الصمّاء المتدحرجة يقف أمامها مبهورا مذهولا، أمّا السكون المطبق عند الفجر له روحه الساحرة التي تجعل زوربا يتيه في عالم الخيال والتفكر.
زوربا من ناحية أخرى رجل يجمع داخل جسده العجوز نقيضين هما صلابة الجسد المتمثل بقوته البدنية الهائلة، إضافة الى الاحساس المرهف بالموسيقى.
أما فلسفة السعادة عند زوربا فهي أن ترضى الروح وتقنع فيقنع الجسد بالقليل وهذا يكفي ليبقى الرجل قويا وحيا حتى اليوم التالي، كما أن علاقاته بالآخرين قائمة على أساس أن تساعدهم بأن تقدم لهم الأفضل وأن تدلهم على عالم أفضل ليعيشوا فيه، وإلاّ فإن تركهم بحالهم المزرية سيكون خيارا جيدا ان لم يكن لديك ما تقدمه لهم.
وبرغم أن نهاية الرواية تحمل فشل باسيل الذريع في استثمار منجمه، وتداعي أحلامه في جزيرة كريت، فإن نهاية الأحداث تشير إلى روح متفائلة جديدة، بات يحملها في قلبه، اكتسبها بسبب صداقته لزوربا، فهو تأثر به، برغم نفوره من الكثير من عاداته، ولكنه اقتبس منه حب الطبيعة وتلك الروح المتفائلة.
مكانة رواية زوربا
تبقى رواية زوربا اليوناني التي أخرجت فيلما من أبرز روايات الأدب الانساني ويبقى نيكوس كازانتزاكيس رغم مرور أثر من نصف قرن على رحيله رجلا ترك بصمة قوية يصعب ان تمحى . عام ألف وتسعمئة وسبعة وخمسين فاز الأديب الفرنسي ألبير كامو بجائزة نوبل للآداب متفوقاً على كازانتزاكيس بفارق صوت واحد، عندها قال كامو: “إن كازانتزاكيس يستحق الجائزة، مئة مرة أكثر مني”. ويرى الكثير من النقّاد أن كتابات كازانتزاكيس تمتّعت برؤية عميقة ونافذة تقدّم بها على غالبية أدباء القرن العشرين في معالجة مشكلات الإنسان المعاصر وهمومه الاجتماعية والثقافية والتربوية والدينية والسياسية. وهو لم يقف عند عرضها وتحليلها وإنما سعى الى الحلول المعقولة لها. ورواية “زوربا” اليوناني تعج بتلك المشاكل ومحاولات الحلول.