فساد العقول … لا فساد الدولة

 

بقلم : توفيق شومان*

متى تفسد الدولة ؟
تفسد الدولة حين يتحكم بها الفاسدون.
الدولة مؤسسات عامة تصلح بصلاح القائمين عليها وتفسد بفساد من يديرونها.
لاتفسد الدولة ذاتيا فهي ليست جسما قائما بذاته ولا كائنا له قوام أوعقل أو جسم أو أطراف أو هيئة.
الدولة مجموعة مؤسسات عامة ، اعتبارية و إجرائية ، يحركها البشر بأفعالهم وأعمالهم .
مؤسسات الدولة هي مكان، مكان قيمته برمزيته العامة .
لا يتحمل المكان مسؤولية الفساد ، فالمكان يفسده أهل المكان .
حين يقع الفساد في الدولة ، يكون قد سبقه وقوع الفساد في عقول من يديرون الدولة ، وحين يقع الصلاح في الدولة ، يكون وراءه عقول صالحة ، وهذا يعني أن آفة الفساد هي في عقل البشر ، وأن أول الصلاح هو في العقل ايضا ، أي كيف تفكر وكيف يفكر وكيف نفكر، ، فالفطنة العقلية تكمن في القدرة على التمييز بين الخير والشر، ولا حاجة لإطالة وإسهاب في القول بأن الفساد شر الشرور.
وبما أن الدولة لا تفكر بل من يتولى الدولة هو الذي يفكر ويدير الدولة كيفما يشاء ويرغب ، بخير أو بشر ، بإستحسان او بإستبشاع ، فهذا يعني ان الدولة لا تكون فاسدة بل مفسود بها ، لأن فعل الفساد هو فعل خارجي يقع على الدولة وليس فعلا ذاتيا تنتجه الدولة.
لذلك ينبغي الحديث عن الفاسدين والمفسدين في الدولة ، وليس عن الدولة الفاسدة ، والفاسدون يأتون إلى الدولة من خارج الدولة ، يأتون فاسدين بالأصل ولا يفسدون في الدولة فحسب ، بل يفسدون في داخل الدولة وفي خارجها ، وقبل انخراطهم في الدولة وبعد انخراطهم فيها .
وقد اجتمعت العقول الصالحة على الإعلاء من قيمة الدولة إلى أن قيل :
الدولة هي القيمة العليا للإنتظام البشري
وهي المصلحة العليا للإجتماع البشري
فلا انتظام ولا اجتماع ولا وئام ولا سلام ولا آمان للبشر المقيمين على أرض واحدة بدون وجود الدولة ، وقديما كتب الفارابي عن ” الدولة الفاضلة ” واعتبر أن الدولة هي الفضيلة العليا .
و من أراد ان يكون فاضلا عليه الإيمان بالدولة بل واختراع الدولة ، وكل فعل فضيل يحيد عن جادة الدولة يبقى خارج الفضيلة الكبرى أو الفضيلة العليا ، وأما لماذا الدولة هي الفضيلة العليا ؟ فلأنها تُعنى بشؤون البشر، ولأنها ترعى مصالح الناس ، ولأنها فوق نزاعات المصالح ، ولأنها فوق خصومات السياسة ، ولأنها فوق الأحزاب والجماعات ، ومبتدأ طريق الفضيلة نحو الفضيلة العليا، أي الدولة ، يكمن في صوغ المسافة بين السياسة كفعل متحرك يحتمل المناورة والمراوغة وبين الدولة كمؤسسات ثابتة تجسد المصلحة العامة .
وهذا يفترض إبعاد الدولة عن تهلكة العصبيات ، فالعصبيات هي أفعال وانفعالات نفسية سلبية تخرج من أفراد وجماعات ، فتصيب الدولة بمقتل أو مصرع .
وإذا كان المنطق يقر بأن الجماعات ومنها الأحزاب تحتاج إلى عصبيات معينة لتبقى وتستمر ، إلا أن المنطق يفرض بألا تقترب تلك العصبيات الحزبية من مؤسسات الدولة.
مرة ثانية : من أين يبدأ إصلاح الدولة ؟
من إصلاح العقول أولا
من عدم التعايش مع الفساد أو تبريره
من عدم تبرير خرق القانون بحجة ضعف الدولة واستباحة القوانين
من عدم تبربر الفساد لأن الآخرين فاسدون
من الإعتقاد بأن السياسة فعل إنساني وليست لعبة شياطين
وبأن الدولة هي تعبير حضاري ـ اجتماعي ناجم عن خروج الإنسان من شريعة الغاب إلى الإجتماع البشري العام تحت مؤسسات الدولة وقوانيها .
وبهذا المعنى تكون الدولة منتوجا لهذا الطور الحضاري فهي :
ـ المؤسسة العامة ـ المصلحة العامة ـ الإجتماع العام ـ العقل العام ، وأي أذية تلحق بهذه المؤسسة أوهذه المصلحة ، هي أذية تلحق بالجميع ، أفرادا وجماعات ، وحين يبرر الفرد فعلا فاسدا لزعيم أو مسؤول ، فإنما يلحق الأذية بنفسه ويكون عدوا لنفسه ، فالفساد مترابط وليس له حدود ولا قيود.
في اللغة العربية ، الفساد يقابله الإصلاح ، أي ضده ، وسبق القول إن الإصلاح أو الفساد ، هما ثمرة العقل ، إيجابا أو سلبا ، بمعنى كيف نفكر ، وإذ يقال إن العقل قادر على تحديد الخير من الشر ، يقال أيضا لأصحاب الأفكار المستقيمة بأنهم ” أصحاب عقول” ، إلا أن هناك من يضع الضمير فوق العقل ، خصوصا أن العقول قد تختلف ولكن الضمائر دائما تأتلف ، ولهذا قيل :
إن الدولة هي الفضيلة العليا
هي الأخلاق العليا
هي الضمير الجماعي الأعلى
بل إن الدولة هي ضمير الجماعة والضمير الأعلى للجماعة .
……………………………………………………