“فاوست” ليوهان غوتة .. وقفة نقدية امام محدودية العقل والعلم وعجزهما

 

“الدنيا نيوز” – دانيا يوسف

 

اعتبرها النقاد من أشهر المسرحيات الألمانية وإرثاً عالمياً مثل “الإلياذة” و”الكوميديا الإلهية” و”هاملت” وغيرها. لذلك كثرت من حولها الشروح والتعليقات والكتابات النقدية والفلسفية وغيرها. وقد استلهمها الكتاب والفنانون والرسامون والموسيقيون في أوروبا والعالم وحولت إلى أفلام سينمائية، ومُثلت بأشكال مختلفة على كافة مسارح العالم. انها مسرحية “فاوست” لغوته.
يوهان غوته شاعر وأديب ألماني وأحد أبرز أعلام الأدب العالمي.
ولد في فرانكفورت عام 1749 وتوفي عام 1832. ويعتبر من رواد الكلاسيكية والرومانسية الألمانية. أنتج الكثير من المسرحيات والنصوص الروائية، كما عرف عنه اهتمامه بالآداب الشرقية وبشخصية النبي محمد (ص) الذي كتب عنه عملاً مهماً. إلا أن أعظم أثر أدبي تركه غوته للعالم، مسرحية “فاوست”، التي تعتبر العمل الأبرز بتقدير معظم النقاد الأدبيين. وقد استوحاها غوته من قصة فاوست الساحر الألماني في القصة الشعبية. استمر غوته في كتابة عمله هذا ستين عاما، بدأه وهو ابن عشرين ورافقه حتى قبيل وفاته بعام واحد أي رافقه من الشباب الى الشيخوخة.
هذه الحكاية هي في الأصل خرافة مضمونها أن رجلا يدعى فاوست كان مشعوذا، يمارس السحر، شغل الناس ردحا من الزمن، وكان يستحضر الأرواح وعندما تقدمت به السن وعجز، باع روحه للشيطان في سبيل ارجاع الشباب اليه.
كبرت الحكاية وتناقلتها الأجيال الا ان الجوهر واحد وهو أن فاوست باع روحه للشيطان وفي النهاية انتصر عليه الشيطان فصرعه. هذا هو المضمون الذي استخدمه غوته في مسرحيته. ولم يكن غوته هو الوحيد الذي اقتبس أو اعتمد على مضمون حكاية المشعوذ فاوست، بل سبقه ماركو الانجليزي قبل مئة عام وكتب مسرحية تحمل العنوان نفسه. ويوجد عددا كبيرا من المسرحيات والروايات عنه لكن ما ثبت من المسرحيات عن الحكاية نفسها وتصدى للزمن وخرج عن حدود الزمان والمكان هي مسرحية غوته.
تتناول المسرحية شخصية تاريخية ولدت في أواخر القرن الخامس عشر هو “فاوست”. و”فاوست” هذا ورث عن عمه أموالاً، وتعلم كل ما أمكنه من علوم زمانه، ولكنه بعد أن أدركه الكبر، اعتقد أن كل ما أخذه من علم لا نفع له. ندم فاوست على سنوات شبابه الذي أضاعها، فظهر له معاون الشيطان “مفستوفيليس” يقايض روحه وجسده على أن يمده بأربع وعشرين سنة وهو في شبابه. اقتنع فاوست بما عرض عليه معاون الشيطان، فمضى في سبيل الشر، قتل وفسق ووقع في كل رذيلة أمكنه فعلها. ينتهي القسم الأول من المسرحية بمأساة الفتاة البريئة مرغريت التي أغواها الشيطان وجعلها تعشق فاوست ثم يدبر لها مقلبا فتقع في الرذيلة وينتهي بها المطاف لتدخل السجن ثم تموت. وفاوست الذي استعاد شبابه، وبدا أول وهلة أنه مقبل على الحياة بحماسة شديدة، سرعان ما ينشأ صراع داخلي بينه وبين نفسه من جهة وبينه وبين الشيطان. ويقع فاوست بسبب هذا الشعور فريسة للندم الأخلاقي والشعور بالذنب. تذمّر فاوست من كل الملذات والمجد الكاذب وحاول التمرد على الشيطان ناسيا عهده له وميثاقه بالدم. وأخيرا عندما كان فاوست متحمسا الى رؤية وطنه الذي يحب، في تلك اللحظة صرّح تصريحه الأخير بأنه وجد ما كان يبحث عنه.
فاوست: “ان السعادة تتجسد في انسان حر فوق أرض حرة.”
فيصرعه الشيطان وتأتي جوقته لتنقله الى القبر لكن جوقة الملائكة تنتشله وتغطيه بالورود والأزاهير وترفعه الى السماء.
مسرحية فاوست تجسّد الصراع الوجودي بين الخير والشر، وتؤكد على محدودية القدرات الفكرية البشرية أمام الطموح الكبير الذي يسكن هذا الإنسان، أي الطموح إلى امتلاك السيادة على الطبيعة وتحقيق رغبات الذات وإسعادها. لكن أسلوب معالجة هذه القضايا كان متناسبا مع اللحظة الزمنية التي كُتب فيها النص، أي القرن الـثامن عشر. فلو عدنا قليلا إلى الماضي سنلاحظ أن القصد من المعرفة كان في القرن الـسابع عشر ، سواء مع ديكارت أو فرنسيس بيكون، هو السيطرة على الطبيعة. وهذه السيادة على الكينونة الطبيعية كانت المقصد ذاته الذي عبرت عنه شخصية فاوست. لكن الفارق هو أن الوعي الأوروبي في الزمن الديكارتي والبيكوني كان واثقا في قدرة العقل على إنجاز هذه السيادة. لكن بعد زوال القرن الـسابع عشر قرن الديكارتية والعقلانية الواثقة، أخذ الوعي الأوروبي يشعر بمحدودية إمكانية العقل، فدخلت الحداثة الأوروبية في عصر الرومانسية الناقدة لنمط العقلنة، والباحثة عن أساليب وطرائق أخرى في الإدراك غير طريقة العقل وأسلوبه. هذا القلق والشك في القدرة العقلية هما ما نجد غوته يشخصهما في مسرحيته الملحمية هذه. فمنذ اللحظة الأولى يقف فاوست أمام العقل والعلم وقفة نقدية يتحسر فيها على محدوديتهما وعجزهما، طامحا إلى إيجاد سبيل آخر مغاير.