عودة الامبراطوريات..!


بقلم العميد مُنذِر الايوبي*

“انه خطاب عديم القيمة” بهذه العبارة وصف زعيم حزب المحافظين في البرلمان البريطاني Iain Duncan Smith بيان رئيس الحكومة الجديدة Rishi Sunak. “سوناك” في كلمته الاولى امام مجلس العموم اعلن ان العصر الذهبي للعلاقات مع الصين قد انتهى، ومن منطلق جلد الذات رأى ان السياسة الخارجية التي انتهجتها الحكومات السابقة مع روسيا وادارة العلاقات الاقتصادية مع الصين كانت “ساذجة” Naivve..!

 

في قراءة مضمون الخطاب المتماهي والمنسجم مع سياسات الادارة الاميركية، بدا واضحا ان المملكة المتحدة ذاهبة في خياراتها نحو استراتيجية مواجهة الصين وروسيا معآ، لا سيما في ظل الكباش الاقتصادي على المستوى العالمي بين واشنطن وبكين كما الغزو” التجاري والصناعي والتكنولوجي الصيني لساحات الكوكب، بالتوازي مع تنامي قوة روسيا العسكرية وطموحاتها الجيواستراتيجية..!

في الرؤية الاستراتيجية، بعد مرور عشرة اشهر على العملية العسكرية الروسية في اوكرانيا وما رافقها من استخدام اختباري وعملي في ساحات الميدان للجيل الجديد من الاسلحة الروسية المتطورة وتبيان فعاليتها، وجدت قيادة حلف شمال الاطلسي ان التفوق العسكري بمواجهة عدوها الاول لم يعد امرا محسوما. و وفق تقرير صادر عن Richard Moore رئيس جهاز الاستخبارات البريطانية MI6: *ان اوروبا والغرب على عتبة “الصراع المفتوح” مما يفرض المزيد من الانفاق العسكري والدفاعي. *ان قطع امدادات الغاز ومصادر الطاقة عن معظم دول القارة العجوز يوجب البحث عن مصادر اخرى للتملص من الارتهان والتبعية لموسكو. *ان روسيا تواجه مشكلات لوجيستية «حادة» بعد تفجير جسر شبه جزيرة القرم. *ان روسيا تواجه تدهوراً في مخزون الصواريخ بعيدة المدى. *إنّ روسيا تستبدل الرؤوس النووية من صواريخ كروز المتقادمة بشحنات متفجرة عالية التدمير. *ان ايران وكوريا الشمالية يمدان روسيا بالمسيرات والذخائر المدفعية المتنوعة. *ان روسيا لن تتوانَّ عن توسيع قائمة الأهداف ان زودت الدول الغربية كييف بأسلحة بعيدة المدى. «نظام MLRS 270 و Brimstone “الكبريت” البريطاني- M142 HIMARS الاميركي» *ان روسيا يجب ان تواجه اقصى العقوبات كي لا تصبح اوروبا لقمة سائغة امام قواتها. مختتمآ بما اشار اليه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف “ان دول الناتو تلعب بالنار” وشحنات الاسلحة ستكون هدفآ مشروعآ لروسيا..!

مع ارتفاع حدة التصريحات البريطانية الصادرة بحق روسيا، من أعلى الرتب العسكرية والأمنية في البلاد، محذرة من حرب وشيكة معها..! وجه القائد الجديد للجيش البريطاني الجنرال Patrick Sanders إثر تسلمه منصبه شهر حزيران الماضي كلمة مقتضبة للعسكريين قائلآ: “ان غزو روسيا لاوكرانيا يظهر الحاجة لحماية المملكة المتحدة والاستعداد للقتال والانتصار في الحروب على الارض، ان على الجيش والحلفاء ان يكونوا قادرين على هزيمة روسيا”..
في براغماتية شاملة ومراجعة طارئة لرؤية الحكومة البريطانية، كشف وزير الدفاع Ben Wallace عن خطة وضعتها هيئة الاركان يتوقع عرضها تفصيليا وقريبآ امام مجلس العموم، تهدف الى تعزيز الاسطول والقوات البحرية الملكية، اضافة الى رفع سقف الترسانة النووية وذلك للمرة الاولى منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، كما ضخ المزيد من الاستثمارات في تكنولوجيا المسيرات والروبوتات والحرب الإلكترونية، فروع الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع..

صحيفة التايمز اللندنية نشرت بعض بنود الخطة المتضمنة ما يلي:
-خفض عديد القوات المسلحة الى حوالى 70.000 بعد تسريح 10.000 جندي من الوحدات المختلفة.
-تغيير في هيكلية مشاة البحرية الملكية لتصبح وحدة جديدة من القوات الخاصة Future Commando Force اكثر فعالية مع تجهيزها بالاسلحة المتطورة.
-تعزيز الاسطول بمزيد من الغواصات الحديثة وسفن المراقبة السطحية لحماية الممرات والكابلات البحرية والبنى التحتية.
-تحديث لواء العمليات الخاصة SAS وفوج الاستطلاع الخاص SRR بما يمنحهما قدرة الانتشار السريع وكفاءة العمل في بيئات عدائية شديدة الخطورة.
-إنشاء لواء مساعدة قوات الأمن ومكافحة الارهاب في اطار تقديم المشورة والتدريب للدول الشريكة والحليفة.
-تطوير اجهزة الاستشعار والاتصالات ورفع مستوى الاجراءات الدفاعية ومواجهة الهجمات السيبيرية.

تحت سياط تغير الزمن والتهديدات كما التحولات الدولية المتنامية، عمدت لندن الى مراجعة سياساتها وعقيدتها القومية بما يضمن استمرارية نفوذها ومصالحها الاستراتيجية سواء من ناحية الأمن والدفاع ام السياسة الخارجية. كما تسعى الى التكيف مع الوضع الجيوسياسي المستجد سواءً على المسرح الاوروبي ام الشرق-جنوب آسيوي، في ظل بروز قدرة موسكو على منازلة حلف شمال الاطلسي NATO وصياغتها لمنظومة احلاف عسكرية واقتصادية تؤمن لها اسنادآ عند الضرورة، على مثال “معاهدة الامن الجماعي مع بعض جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقآ؛ التعاون العسكري والاقتصادي العالي المستوى مع الصين؛ الشراكة العسكرية والاقتصادية مع كل من ايران والهند والبرازيل الخ..”..!
استطرادآ، ضمن فرضية سباق البدل Relay Race فإن بكين وموسكو تمارسان “التبادلية” Reciprocity الصادقة، اذ ان التحفظ الوقائي لبعض الدول “على خلفية العقوبات الاميركية والغربية” عن الانخراط بعلاقات اقتصادية وسياسية متميزة مع موسكو يسقط امام بكين على غرار القمم الثلاث (السعودية- الخليجية- العربية) التي عقدت مؤخرآ في العاصمة السعودية الرياض مع الرئيس الصيني Xi Jinping..
تاليآ، لم يتوان “سوناك” الذي اصبح رئيسا للحكومة البريطانية في شهر اكتوبر الماضي عن متابعة نهج سلفه بوريس جونسون، اذ ان كييف كانت هدف زيارته الاولى خارج البلاد، واثر لقاءه رئيسها فلوديمير زيلينسكي اعلن استمرار حكومته تقديم المزيد من المساعدات العسكرية والنوعية للجيش الاوكراني لصد القوات الروسية معلنآ “أننا نحمي أنفسنا من خلال حماية أوكرانيا”..! في المنطقة الرمادية يقف رئيس الحكومة البريطانية، إذ اعتبر في احد تصريحاته الصين التهديد الأول للأمن العالمي والمحلي، متعهدا قمع نفوذها. بالمقابل وفي قمة مجموعة العشرين منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي دعا إلى “علاقة صريحة وبناءة بين لندن وبكين”.

أخيرآ؛ في حتمية الصراع خلفية تاريخية حاضرة بقوة، فكل من الكرملين و 10 دوانينغ ستريت تقوم استراتيجيتهما على استعادة الاول أمجاد روسيا القيصرية في حين يسعى المقر الثاني مستعينآ بدعم الحلف العسكري الاول والاقوى في العالم NATO الى إحياء نفوذ الإمبراطورية البريطانية متخذا من اوروبا حلبة المواجهة. وبالتالي فإن كلاهما على حافتي الهاوية..!

بيروت في 14.12.2022