عاشق التاريخ السيد حسن الأمين في ال94 من عمره وما زال يسعى للحقيقة التاريخية

 

“الدنيا نيوز” – دانيا يوسف*

عندما يبلغ المرء التسعين من عمره فإنه يتفرغ ليعد أيام حياته المتناقصة يوماً إثر يوم، أما هو فكان
في الرابعة والتسعين يعدّ العدةّ ويضع المسودات لمشاريع كتابية قابلة للتنفيذ.
عاش حياته بين أوراقه وقلمه محبّرا بعناية واتقان ألوف الصفحات في شتى مناحي البحث والكتابة…قالوا عنه انه وجد العمر أضيق من
أن يتسع لأمرين، الزواج والأولاد،واما البحث
والكتابة وكانت بوصلته الخيار الثاني…
تعرّض لانتقادات عديدة وسيقت بحقه أقسى العبارات والتهم،لكن ذلك لم يفت من عزيمته وواجه مخاصميه بالحجج والبراهين…
انه المؤرخ اللبناني السيد حسن الامين…
ولد الأمين في دمشق عام 1908 وأمضى فيها طفولته الاولى…وهو سليل أسرة دينية تتحدر من بلدة “شقراء” جنوب لبنان، فوالده العلّامة السيد محسن الأمين الذي اضطلع بدور هام ما بين أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.وبرز رمزا دينيا اصلاحيا على المستوى الاسلامي ورمزا وطنيا لعب دورا بارزا في سوريا في مواجهة الاستعمار الفرنسي في العشرينات.
وعندما اندلعت الحرب العالمية الاولى عام 1914 انتقلت العائلة مجددا الى “شقراء” تضمنت الكثير من المشاق والمتاعب…ويتحدث السيد حسن الأمين عن هذه المرحلة من حياته في مذكراته التي ألحقها بنهاية المجلّد الأخير من المستدركات:
“لا أعي من اواخر الحرب العالمية الأولى الا أشباحا غير مترابطة لا أستطيع أن أؤلف منها حدثا كاملا”.
بعد نهاية الحرب العالمية بسنتين وتحديدا في العام 1920،عاد السيد حسن الأمين الى دمشق…وفي العاصمة السورية، تابع الأمين دراسته الأكاديمية في المدرسة العلوية التي أسسها والده السيد محسن الأمين…ولا شك أن الشخصية الموسوعية التي اتسم بها والده تركت بصمات واضحة عند أبنائه وطلابه…فكان الفتى اليافع ينظر بعين لاعجاب الى والده ويحاول قدر المستطاع أن ينهل من معينه الخصب.
في العام 1930 التحق السيد حسن الأمين بالجامعة السورية وحاز اجازة في الحقوق.وسدّت أبواب القضاء دونه في هذه الفترة لأنه كان يجاهر بعدائه لسلطة الانتداب الفرنسي على دمشق…فسافر الى العراق والتحق بسلك التعليم حيث قام بتدريس مادتي التاريخ واللغة العربية للصفوف الثانوية.
واستمر الأمين في العراق حتى الحرب العالمية الثانية حين انهزمت فرنسا أمام ألمانيا النازية وتقلّص نفوذها في بلاد الشام.حينها سعى بعض أصدقاء الأمين لتعيينه في القضاء المدني في سوريا أو لبنان وتكللت مساعيهم بالنجاح.وتلقّى الاستاذ حسن الأمين،وهو في العراق، نبأ تعيينه كقاض مدني في مدينة النبطية عام 1942.هذا المنصب القضائي المتعلق بالقضايا الجزائية والحقوقية وضعه في مواجهة مباشرة مع مشاكل وهموم الناس.
أنهى عهده بالسلك القضائي وقدّم استقالته منه في شهر شباط\فبراير من العام 1945 وعاد الى العراق في العام نفسه.
موسوعة أعيان الشيعة:
فارق السيد محسن الأمين الحياة في أواخر العام 1952 بعد أن أودع لنجله من بعده أمانة غالية “موسوعة أعيان الشيعة”…وهي أهم وأشمل وأشهر مؤلفات السيد محسن الأمين وأوسعها انتشارا وتتضمن تراجم وسير أهم الشخصيات في التاريخ الشيعي سواء على الصعيد الديني والسياسي والاجتماعي.
صدرت موسوعة “أعيان الشيعة” بأحد عشر مجلدا بعد جهد مضني أجبره على السفر عدة مرات الى العراق وايران للاستفادة من المكتبات الموجودة هناك وما تحتويه من مصادر علمية ومخطوطات نادرة.وقد استغرق تنظيم تلك المخطوطات واعدادها أربع سنوات…وفي هذا الصدد يقول السيد حسن الأمين:”كان من المفروض،مع طبع هذه الموسوعة، أن تكون الهموم قد زالت،ولكن العكس حصل عندما وجدت نفسي أمام شيئ آخر،وتنبهت الى أن مؤلف هذه الموسوعة لم يذكر تراجم الأحياء في عصره والذين توفوا لاحقا…هنا تحركت المطامع في نفسي وأتاني همّ آخر فعلمت انه لا بدّ من عمل جديد يجمع كل ما استجد، وهو ما أسميته مستدركات أعيان الشيعة وبلغ أحد عشر مجلدا”.
انصرف السيد حسن الأمين الى التأليف في شتى مناحي البحث والكتابة والاستقصاء… فأعاد قراءة تاريخ أحداث لبنان والمنطـقة, مصوّباً الكثير من المسائل التي كان البعض يعتبرها من المسلّمات, فتصدى للشائعات مصوّباً ومعدّلاً ولاغياً ومضيفاً…كما استقصى حقائق الأقوام وحضاراتهم في مواقعها المتناثرة في أرجاء الكوكب, فكتب في أدب الرحلات وعلومها ما أغنى المكتبة العربية وأضاف إليها.
اعادة تصحيح التاريخ:
من خلال مؤلفه “نصير الدين الطوسي” سعى الأستاذ حسن الأمين الى الحقيقة التاريخية واعتبر أن عمل المؤرخ يحتّم عليه دخول التاريخ بذهن بعيد عن التحيّز وعن الأفكار المسبقة بهدف طلب الحقيقة…ويقول أيضا:”ان نصير الدين الطوسي الذي هاجمه مركّبو التاريخ بالابرة والصنّارة استطاع أن يهزم بالعقل والعلم والتدبير الدولة الطاغية الباغية دولة المغول.ونجحت خطته في تحويل المغول من وثنيين الى مسلمين وروّض شارب الدماء هولاكو.فمثّل بذلك أنموذج المثقف الكبير الذي وظّف علاقته بالسلطان الطاغية في خدمة مشروعه التاريخي المتمثّل بتحويل القوة الوحشية العاتية الى قوى تسهم في بناء حضارة وثقافة”.
معارك الأمين:
خاض حسن الأمين معارك تاريخية اتسمت بالكثير من الجرأة فحورب بشتى السبل وجوبه بعبارات قاسية…لكنه صمد مقابلا كل ذلك بالأدلة التاريخية العلمية. ولعلّ كتابه ” صلاح الدين الأيوبي بين العباسيين والفاطميين والصليبيين ” من أبرز الكتب التي أثار زوبعة كبيرة من ردود الأفعال الشاجبة باعتبار أن المؤلف تعرّض لرمز تاريخي كبير…
عاش حسن الأمين يسابق الزمن بهمة لم تكلّ وعزيمة لم تثبطها لا قلة المال أحياناً,ولا لزوم المطابع, ولا تراكم السنوات على الكاهل, وحافظ حتى آخر كلمة قالها وكتبها, على رجاحة عقل مذهلة وحضور فكر ثاقب لم تمسّه شائبة.
توفي السيد حسن الأمين في الرابع عشر من شهر تشرين الأول\اكتوبر عام الفين واثنين عن عمر ناهز أربعة وتسعين عاما…
هذه محطات من سيرة حياة رجل أهدى عمره للعلم والمعرفة.