طرابلس.. عدوى الغضب والمصائب المتشابهة

بقلم العميد مُنذِر الايوبي*

خفقت قلوبهم واهتزت اعصابهم صاعدين الى مركب متهالك امل رسوٍ على ضفاف مجهول او غرقآ في لجة المستحيل.. اقفال اكواخٍ صدأة سقطت لا أسفآ في زبدِ اسودٍ عُباب.. عيون شاردة عصى نومها تواصل تحديقآ بين شفق بهيم ووجه المدينة.. في حالة الجهد الاقصى محرك الديزل يتجشأ بين وجوه كالحة وضباب دخانآ سميكآ كربوني اللون سُمي الرائحة، ضجيج يختلط مع صخب الموج، والهمسات بين امهات واطفال شبه نغم صلوات رتيبة في حمأة السكون حد التعود..!

ريح ربيعية عليلة ان تحالفت مع الموج دنا الخطر،.. خشية القوم من متوقع على تخوم المقصد حصل في مياه الوطنِ..! دقائق ثم حضن البحر جثثهم مأساتهم وامانيهم..! من قلب ضوء القمر كان الصمت في بؤرة الرهبة بوحشة الظلال..! قد قيل عن ثلاث لا امان لهم البحر والسلطان والزمان..!

الغضب صنو الالم شعور سائد سلوكيآ ذهنيآ وفسيولوجيآ، استجابة سريعة من الدماغ ردة فعل على موقف او حادث؛ مؤداه غالبآ كثير ضرر وقصور معالجات، إنعدام صفاء ذهن وتروٍ في تفكير..!
افواه وافئدة اهل واقرباء كما الناجين تنطق ما لا يحتمل، تطرق دون قصد نظريات فلسفة الالم لانعدام التعاطف -اذ ان “ألم العقوبة في حد ذاته ألم بالنسبة لِلمُعاقِب” وفق ملاحظات الفيلسوف الفرنسي Michel Foucault- لا انتقامآ من قدر بل سخط مستحق..! الفيلسوف الروماني Seneca اعتبر “الغضب نوع من جنون” لكنه الان تحسس من جور، تفاعل كامل مع اذى واثارة معتلة صدى استرجاع امنية كانت برحيل وغربة املآ بخلاص..!

في المدينة استحال الغضب عدوى لوحدة المعاناة وتشابه المصائب، الفقر حاصل مشترك لدى غالبية مع جمع جهل وتجهيل..! في خطيئة الكبرياء سقط اهل البلد بعد سنين، اذ لم يعد من قدرة على تزلف او مد يد، اقتناعآ ان اصحاب كديسي الملايين من طرابلسيين صح فيهم – دون تعميم – قول مأثور: ” ما جمع مال الا من شح او حرام”..! كما ادارات دولة اعتادت سطوآ منظمآ على جنى الاعمار سباقة الى الجرم قبل المجرمين.. تسبيح قادتها بحمد الله ضلال مبين، درجُ لثم أيادٍ استدرار بركة دنانير شحيحة سواء من ضرع قريب او ديون من صندوق صديق..!

في الحرمان؛ الرزق معدوم الازقة بالية اسواق فارغة الا من عدم؛ صار الحرير الهندي في خان الخياطين خيش بالٍ ومطارق سوق النحاسين صدأة خضاب اخضر زنجار لم يحمِ تآكل مَر زمن؛ لا سؤال عن بقية اسواق ففي جمعها الأسى سيان..!
الحرمان مفروض عن نية شريرة وارادة عاق؛ وصمة اجتماعية ومعيشية تقارب العار؛؛ الفيحاء كباقي ارجاء الوطن لا توزيع عادل للموارد اسيرك فجوة اقتصادية اجتماعية ومالية..! بدا الالتزام الديني لدى كثرٍ محاولة هروب من مأزق الوجودية فالجوع كافر وقد يكون الانتحار أحيانآ خيارآ متوقعآ وحيد..! أليست رحلة الموت الاخيرة نوع من انتحار..؟ أليست فكرة الانتحار عامل نفسي ومرضي..؟ نتاج فشل ذريع في خلق نوعية حياة افضل..!

من جهة اخرى؛ في الوجدان الطرابلسي، صراع اجتماعي مزمن مع دولة ضالة، والتزام ايديولوجي بعروبة ضاعت في غبرة وغمرة التطبيع.. اذ لا يزال وليد طرابلس الفريق اول فوزي القاوقجي قائد جيش الانقاذ وبطل معركة المالكية قصة تروى من الاجداد للاحفاد.. هي حضن الناصرية العروبية يوم كانت نزعة النأي بالنفس والانحراف نحو غرب بعيد رغبة اجزاء من اسطورة وطن.. هي في هويتها مُقاوِمة للظلم والتمييز حد العصيان والثورة.. علاقة ملتبسة مع دولة قهر واجحاف واهمال، ثبتت في اسواقها الشعبية ما سُمي في سبعينيات القرن الماضي “دولة المطلوبين- قائدها احمد القدور، واركانها: عبد الغني كمون، فيصل الاطرش، البر حلو، مظهر الشامي، ابراهيم الصمدي ومحمد علي جمعة المسلماني.. اسماء يتداولها الحكواتية من رواد مقاهي الزوايا اشادة وتمجيدآ.. ثم اكتملت فصول المؤامرة كسر عنفوان ابنائها ومحو وجدانها في جعلها صندوقة بريد سياسية امنية، عبر تعميم فاقة وعوز، حافزية جعل السلاح والرصاص مصدر رزق شباب بعيدين عن علم عاطلين عن عمل الا من وصال وتواصل او ارتباط مع اجهزة استخباراتية متعددة الهويات ضاربة من خلف الحدود ..!

اخيرآ؛ في المدافن دموع ترسم حدود تراب طهور.. لا رياحين صباح عيد آت تعطر القبور، انتظار ثقيل لمن فُقدوا مع يأس العثور..! طرابلس ربما تنبأ بحالها الروسي العظيم فيودور دوستوفيسكي (Fyodor Dostoevsky) عندما قال: “لقد كنت أحترق ، بينما أنت جئت تلومني على رائحة الرماد”..!

بيروت في 28.04.2022