ضابط الأمن بين حُكم القانون وصوت الضمير…

خاص – “الدنيا نيوز”

بقلم : العميد أنور يحيى*

قوى الأمن الداخلي قوى عامة مسلحة تشمل صلاحياتها جميع الأراضي اللبنانية والمياه والأجواء الإقليمية التابعة لها، ومن ضمن مهامها في مجال الضابطة الإدارية :
• حماية الأشخاص والممتلكات ،
• حماية الحريات في إطار القانون،
• السهر على تطبيق القوانبن والأنظمة المنوطة بها.
تتبدل مواقع إستخدام ضابط الأمن من منطقة الى أخرى وفقا لتشكيلات وأوامر تصدر عن مجلس القيادة أو المدير العام لقوى الأمن الداخلي وفقا للأصول.
تنقلت في إدارة مواقع أمنية كثيرة منذ تخرجي من المدرسة الحربية صيف 1974 ومنها:إمرة فصيلة درك عاليه (1984-1989) وإمرة مفرزة التحري في الشمال (1989) وقيادة سرية درك زغرتا (1998-1999) ثم قيادة الشرطة القضائية (2005-2010).

كان المرتكز الأساس أثناء قيامنا بمهامنا وفقا لتنظيم قوى الأمن الداخلي:القانون رقم 17/90 التقيد بأحكام القوانين والمراسيم والتعليمات النافذة وما رافق ذلك من تدخلات ضاغطة أحيانا من الرؤساء أو القوى السياسية والعسكرية اللبنانية والسورية لمصلحة أحد الفرقاء أثناء التحقيقات العدلية (بإشراف النيابة العامة المختصة) أوالإدارية التي نقوم بها شخصيا،أو بواسطة قطعات تعمل بإمرتنا وبإشرافنا .

 

جنبلاط وبطاقات التوصية الصادرة عنه.

بعد تشكيل الرئيس رشيد كرامي حكومته مطلع صيف 1984إثر تحرير الجبل وبيروت ، عُين الإستاذ وليد جنبلاط (رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي) وزيرا للأشغال العامة والسياحة،
تّم تعيين النقيب أنور يحي أمرا لفصيلة درك عاليه، بظل وجود حواجز الجيش السوري والشرطة الأمنية للحزب الأشتراكي، مع تطبيق نظام الإدارة المدنية في الجبل بإشراف الحزب التقدمي.
تقدمت من قائد الدرك بحينها مستوضحا ظروف تعييني أمرا لفصيلة درك القضاء وأنا أنتمي الى قرية من قراه وذلك مخالف للقانون والتعليمات النافذة، فكان الرد :نعلم ذلك لكن القيادة اختارتك بالتنسيق مع الوزير وليد جنبلاط وللضرورة أحكام وعلى ثقة أنك ستنجح بالمهمة الدقيقة !
زرت الوزير جنبلاط الذي .أكد ثقته بحزم وتجّرد النقيب وقال:
“سياتي اليك الكثيرون يحملون بطاقة توصية موقعة مني للمساعدة بطلبات لهم لديك.أرجو وضع بطاقة التوصية في الجارور وتصرف وفقا لأحكام القانون ولضميرك فقط!”
لم يطلب تسهيل طلبات أنصاره بل اعتِماد التجرد وتنفيذ القانون برقابة الضمير وحده .
طالت خدمتي الإستثنائية في إمرة فصيلة درك عاليه خمس سنوات وحافظنا قدر الأمكان على هيبة وتجرد الدرك بظل الحواجز المسلحة للحزب والجيش العربي السوري وكان الوزير وليد جنبلاط يحرص على دعم مخافر الدرك لتنفيذ المهام المكلفة بها وتسهيلا لمعاملات الناس، وهي التي تبقى موجودة ومفتوحة الأبواب بمعزل عن أي جيش أو قوى نافذة منتشرة مهما كان نوعها.!

فرنجيه وضابط التحري

أوائل شهر نيسان 1989 صدر أمر المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي وقضى بتعيين الرائد أنور يحي ، أمرا لمفرزة طرابلس القضائية، التي تشمل صلاحيتها الإقليمية محافظة الشمال بحينها. كانت حروب التحرير والإلغاء مستعرة والطريق الى طرابلس من منزلي في قضاء عاليه يمر عبر بعلبك- دير الأحمر- بشري، ثم طرابلس..حوالي 200 كلم بظل الأجواء الغير مستقرة وأقفال الطريق الساحلي علينا.
وفقا للتعليمات، عندما يتولى ضابط الأمن مسوليته الجديدة في المنطقة يتعرف إلى الفاعليات السياسية،القضائية،العسكرية والأمنية ، لتسهيل التعاون بإنجاح مهمته.
زرت فخامة الرئيس السابق سليمان فرنجية (80 سنة) في قصره، زغرتا، حيث رحّب بي واستمعت على مدى ساعة إلى تحليله وخبرته كزعيم وطني وما يرتقب من تطورات أمنية وسياسية تنعكس على أمن منطقة الشمال والوطن اللبناني ، وكانت الأخبار السياسية والأمنية مضطربة جدا .
قبل استاذاني بالمغادرة طلبت اليه تزويد قائد التحري في الشمال بنصائحه المفيدة.
أمسك كتفي بيده وقال:
يا أبني إذا وقعت باشكال ما بين أحكام القانون وأحكام ضميرك،
نفذ القانون بأحكام الضمير، بحيث أن القانون قد تنسى بعض فقراته أنما ضميرك حاضر يرافقك بأي ظرف وهو الفيصل الأساس لإدارة الموظف شؤون الناس!
كنت أشرح لضباطي سمو أحكام الضمير والشفافية والوطنية الصادقة عند تنفيذ مهامهم الأمنية وظلت كلمات الرئيس فرنجيه راسخة في ذهني.

النقيب عدنان شعبان ، والرئيس الياس سركيس!

يروي النقيب عدنان شعبان، رئيس فرع الأمن القومي في مديرية المخابرات في الجيش اللبناني (1977-1982) بكتابه :سيادة الأستقلال: ذاكرة الأيام الأتية، والصادر في بيروت 2016 الصفحة 163: أنه في العام 1979، وبسياق عضويته في مجلس قيادة الأمن العام برئاسة مديره العام الأستاذ فاروق أبي اللمع، وأثناء النظر بترقيات كبار المفوضين النافذين ،إعترض على ترقية أحدهم بحجة وجود معلومات قد تمنعه من الترفع، ولم يوافق رغم إلحاح المدير العام عليه، ولم تتم ترقيته. كان شقيقه (النافذ) التقى الرئيس سركيس ووعده المساعدة بالترقية.
في اليوم التالي استدعاه الرئيس الياس سركيس الى مكتبه في القصر الجمهوري وسأله غاضبا:
– لماذا لم توافق على ترقية المفوض(X) الذي طلبه منك المدير العام؟
– لوجود معلومات سلبية بحقه، ولو علمت أن فخامتك تطلب ذلك، لوافقت بإعتبار أن ذلك لمصلحة الدولة (Reason d’état)..
عندها تقدم المغفور له الرئيس سركيس وأمسكه بكتفه وقال:
-إياك ثم إياك أن تُحمِل ضميركَ وتُوقِع أي شيء لا تقتنع به..لا كرمى الدولة ولا لهيبتها ولا للرئيس. دع ضميرك يهديك!
• الخلاصة
يُقسِم الضابط عند تخرجه من المدرسة الحربية، برتبة ملازم ، بالمحافظة على علم بلاده والذود عن وطنه لبنان وليس عن: حزب أو طائفة،أو جماعة معينة.
فاذا كان القانون الذي يسنهُ ممثِلو الشعب هو القاعدة والمرتكز الأساس لتنفيذ المهام الُمكلف بها رجل الأمن ، فإن ضميره يرشدهُ نحو الحق والتمسك بالشعور الإنساني ، ومقاومة نفوذ بعض السياسين لنصرة محاسيبهم وأنصارهم ، والتصدي لتدخلات بعض الرؤساء الغير عادلة أحيانا؟..وكم عانينا منها لا سيما ضمن حقبة 1990-2005؟
—————————-
*  قائد سابق للشرطة القضائية
18/11/2023