صورة الأم في الآداب العالمية تعكس واقعها… مثال للخير في عالم مليء بالشرور

الدنيا نيوز – دانيا يوسف

 

 

الأمومة بكل ما تحمله من قيم إنسانية عميقة شكلّت مادة جوهرية في الأدب، على اختلاف أطيافه شعراً ومسرحاً ورواية.
فأي رمزية حملت صورة الأم في الأدب؟ وهل اختلفت صورتها في الرواية عن الشعر؟ وأي مفاهيم قدّمها الأدبين العربي والعالمي عن الأم؟
الأم في الشعر:
اتسمت صورة الأم في معظم القصائد العربية، القديمة منها والحديثة، بالقداسة والنقاء كقول الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي: “الأمُ تلثم طفلها وتضمه/ حرمٌ سماويّ الجمال مُقدس”، أو كما جاء في قصيدة سعيد عقل الذي نزّهها عن البشر بوصفها ملاكاً: “أمي يا ملاكي/ يا حبي الباقي إلى الأبد”. وفيها يقول حافظ إبراهيم: “الأمُ مدرسة إذا أعدَدْتَها/ أعدَدْتَ شعباً طيبَ الأعراقِ/ الأمُ روضٌ إن تعهده الحيا/ بالريِّ أورَق أيمّا إيرَاقِ/ الأم أستاذ الأساتذة الأُلى/ شغَلَت مآثرهم مَدى الآفاق”.
أمّا حسن عبدالله، فاختار أن يُعظّم فئة أخرى من الأمهات، أم الشهيد التي تُعطي ما هو أغلى من حياتها وتصبر محتسبةً فاجعتها عند الله، فيقول: “أجمل الأمهات التي انتظرت ابنها/ أجمل الأمهات التي انتظرته/ وعاد مستشهداً/ فبكت دمعتين ووردة/ ولم تنزوِ في ثياب الحداد…”.
وترتبط صورة الأم أيضاً بمشاعر الحنين إلى الطفولة، إلى زمن مضى، وبراءة لن تعود. وهذا ما عبّر عنه محمود درويش الذي جمعته بأمّه صلة أعمق من أن تُفسّر، فكانت بطلة الكثير من قصائده، أشهرها: “أحنّ إلى خبز أمي/ وقهوة أمي/ ولمسة أمي/ وتكبر فيّ الطفولة/ يوماً على صدر يوم/ وأعشق عمري لأني/ إذا متُّ/ أخجل من دمع أمي”.
وحين نحكي عن الحنين الموجع إلى الأم الغائبة أو الراحلة أو البعيدة تحضر أبيات بودلير، الشاعر الفرنسي الذي لم يُخفِ عقداً نفسية تولدت لديه جرّاء إهمال والدته له بعد ارتباطها برجل عسكري حادّ الطباع. ولكن، مع قسوة مفرداته وسوداوية قصائده، ظلّ بودلير رؤوفاً بأم ما برح يحلم بها ويحنّ إلى لحظات جمعتهما معاً. وهذا ما تنقله قصيدته “الشرفة” التي يقول فيها: “يا أمّ الذكريات/ يا سيّدة السيّدات/ يا أنتِ، كلّ ملذّاتي/ يا أنتِ، كلّ واجباتي/ أتتذكرين جمال اللمسات/ روعة الموقد، وسحر الأمسيات/ يا أمّ الذكريات/ يا سيّدة السيدات”.
الأم في الرواية:
وجه الأم في الشعر يكاد يكون واحداً: وجه يُمثّل القدسية والمثالية والبراءة. أمّا في الرواية فمن الصعب إيجاد صورة موحدة عن الأم. جاءت الأم في روايات نجيب محفوظ عظيمة في تلك الأشياء الصغيرة التي تقوم بها بـ “حبّ عظيم”. فكانت قوية في ضعفها بل رمزاً لثبات القيم ولمّ الشمل مثل أمينة في ثلاثية محفوظ التي لطّفت بعطفها حياة قاسية في ظلّ والد مستبد كالسيّد أحمد عبد الجواد. وفي روايته “بداية ونهاية” كانت النموذج البديل عن صورة الأب الغائب وتحملّت أعباء الأبناء بصلابة تتماهى مع الحبّ.
وفي الروايات التي تحمل قضايا كبرى كالهوية والوطن والانتماء، تغدو الأم رمزاً للأرض، وهذا ما يرصده غسان كنفاني في رواية “أم سعد مثلاً”.
“الأم” لمكسيم غوركي:
رواية “الأم” للكاتب الروسي مكسيم غوركي هي الرواية الأضخم والأهمّ بين الإنتاجات الأدبية كافة. والتي مازالت موجودة رغم مرور أكثر من مائة عام على صدورها أول مرة كعمل إبداعي جسد دور المرأة المناضلة من أجل نصرة وطنها من براثن القياصرة. وتعتبر هذه الرواية أحد الاسباب التي مهدت للثورة البولشفية الروسية وصوّر فيها غوركي حياة الفقراء والكادحين. برع مكسيم غوركي في رسم ملامح الأم المضحيّة ومشاعرها وحنوّها على ابنها وبيتها وأصبحت الأم في هذه الرواية من أكثر الشخصيات المؤثرّة في تاريخ الأدب العالمي لانها كانت ترمز للوطن.
الأم في السير الذاتية:
تزدحم السير الذاتية بنماذج مختلفة عن أمهات تركت كلّ واحدة منهنّ أثرها في ابنها أو ابنتها بطريقة مختلفة، ومنها “الكلمات” لجان بول سارتر، “طفولة” لنتالي ساروت، “قصر أمي” لمارسيل بانيول”. لكنّ أم الكاتبة الفرنسية مارغريت دوراس في سيرتها الذاتية “سدّ في وجه الهادئ” تبقى هي الأكثر إثارة، أو ربما التباساً. فالأم هنا ذات قوة أسطورية، تواجه كلّ العقبات لتخرج منها شامخة كسنديانة، حتى وصل بها الحدّ إلى مقارعة الطبيعة، فقررت أن تبني السدّ في وجه الفيضان وإن كلّفها ذلك أن تدفع بابنتها إلى الارتباط بميلياردير يؤمّن لها ما تحتاجه لبناء ذاك السدّ.
روايات تغيّر الصورة النمطية للأم:
عندما استهلّ ألبير كامو روايته “الغريب” بمطلع صادم يقول: “اليوم ماتت أمي، أو ربما البارحة، لا أدري” وهي الجملة الأشهر في الأدب الفرنسي، أصيب القرّاء بما يشبه الهلع من شدّة برودة الراوي/ الابن، ولامبالته تجاه كائن مفترض أن يكون هو أحبّ الناس إلى القلب.
لكنّ الصدمة الحقيقية تبلغ ذروتها في رواية الكاتب الفرنسي جول فاليس Jules Vallès “طفل” التي رصد فيها نموذج الأم “الشريرة”. فمن خلالها ينسف فاليس كلّ معاني الحبّ والطيبة والتفاني التي التصقت طويلاً بمفهوم الأمومة وينتقي أقسى النعوت لوصفها. يرسم شكلها بعين طفل خائف، مرتعد. هي المرأة المتسلّطة التي تفتتح الرواية على مشهد ضربها لابنها. أم يرتجف منها ابنها حين يخالف بنداً من قائمة ممنوعاتها الطويلة.
مهما ابتعدت الأمكنة واختلفت الأزمان تبقى الأم في الأدب، كما في الحياة، أم لا تُمثّل سوى الخير في هذا العالم المليء بالشرور. وأيّ صورة أخرى هي حتماً صورة شاذة عن الطبيعة. صورة امرأة لم تحظَ بنعمة أن تكون أماً.