شيخ الادب الشعبي سلام الراسي: أخاف أن أموت وتبقى حكايات الناس في ذمتي!

 

 

 

“الدنيا نيوز” – دانيا يوسف

قال في مقابلة صحافية: “أخاف أن أموت فتبقى في ذمتي حكايات الناس” وناشد في مقابلة تلفزيونية هواة “أنتيكا” المأثورات الشعبية أن يوافوه بما عندهم منها، متعهداً أن يهدي كتاباً من كتبه الى كل من يهديه الى مأثورة جديدة…
جاء الى حكايات الأدب الشعبي القروي متأخراً بعدما بدأ شاعراً في شبابه. غادر الحياة تاركاً وراءه خزانة تغصّ بهذه المرويات : حكايات وأقوال مأثورة وحكم وأساطير وأزجال وأسجاع واصطلاحات وأفكار وتعابير حصدها بقلمه من الذاكرة ومن الألسن فباتت ملكاً للجميع محفوظةً من الاندثار والزوال شأن الكثير من الحكايات والتواريخ الشفهية.
انه سلام الراسي واحد من رموز كتّاب الأدب الشعبي في لبنان… وللحديث عن هذا الأديب لا بدّ من الرجوع الى كتابه “ثمانون أو العمر الدائب في البحث عن المتاعب” والذي دوّن فيه صاحبه عصارة تجربته في الحياة…
ولد سلام الراسي عام 1911 في قرية ابل السقي في جنوب لبنان… كان والده “يواكيم الراسي” كما يشير سلام في كتابه “ثمانون”:” قساّ بروتستانتيا ومعلما مدرسيا متفانيا،لا في خدمة رعيته وحسب، بل في خدمة الناس قاطبة من أهل منطقته”.
لكن والده توفي ولم يكن ابنه سلام تجاوز السابعة من عمره، فبذلت والدته كل جهدها كي يكمل سلام مسيرة والده ويسير على خطاه…
الا أن جهود الوالدة باءت بالفشل، ومضى سلام في دروب الحياة فتى متمردا مشاكسا ما دفع والدته لأن تردد على مسامعه باستمرار “ان جميع الطرق في المستقبل سوف تكون مسدودة أمامه”…
أنهى سلام الراسي دراسته الثانوية في مدرسة المرج العالية في مرجعيون سنة 1930… ثم انصرف الى نظم الشعر ومخالطة أهل الأدب والثقافة في زمانه، كما استغرق في شؤون السياسة عبر حماسه لمجموعات الحزب الشيوعي في منطقته…
وتبرعت له والدته يوما بنصيحة كما يقول: “قالت لي والدتي: سلام حط عقلك براسك وتعلّم الزراعة، فتكسب رزقك بعرق جبينك. وحطيت عقلي براسي والتحقت بالمدرسة الزراعية التابعة للجامعة الأميركية في البقاع سنة 1934، في عهد رئيسها المفكّر حليم النجار لأتخصص بعلم تربية النحل والدواجن. وبعدما أضعت سنة من حياتي بين الدجاج والبقر والنحل والارانب، دعيت مع معلمي حليم النجار الى حفلة في زحلة فارتجلت أبياتا شعرية ختمتها بقولي:
وبنات شعري بعدما طلّقتها ناديتها: عودي بربك عودي
قد تبت من علم الزراعة فاصفحي عن شاعر الانشاد والتغريد
وهجرت نحلاتي وبعت أرانبي ومداجني الكبرى ببيت قصيدي”
عندها نصحه حليم النجار أن يترك الزراعة ويعود للشعر… عاد مجددا للسير في زواريب الحياة الضيقة… مارس مهنة التعليم لمدة سنتين وثلث السنة الثالثة واصابه الملل… وعاود البحث مجددا عن الأمان الى أن دار حديث بينه وبين الشاعر عبد الحسين عبد الله الذي كان موظفا حكوميا نصحه خلاله بوظيفة حكومية يكسب من خلالها قوته.
وكان رجل الاعمال المعروف آنذاك اميل البستاني قد أنشأ ما سمي “مصلحة التعمير” وهي مؤسسة تابعة للدولة لاعادة تعمير القرى المتضررة بالزلزال الذي ضرب لبنان سنة 1950… فقصده سلام الراسي ليلحقه باحدى وظائف المصلحة فعينّه برتبة مدرّب… والمدرّب يومذاك كان عبارة عن مهندس بدون شهادة…


وذات يوم رافق الراسي اميل البستاني في جولة على المناطق المتضررة من الزلزال… وهناك، التقيا مئات الأشخاص، كل واحد روى أو حاول أن يروي لهما، كيف شعر بالزلزال، وماذا قال أو فعل…
وفي احدى قرى منطقة جزين انتصب أمامهما رجل وقال:” كنت في المنزل مع أسرتي، فشعرت أن الأرض تحلفصت تحتنا… نجينا يا رب… فتحت عيوني فرأيت حجارة البيت تفلفصت، فجوجلت أولادي وهشلت…”
وبذلك تمكن سلام الراسي، من خلال وظيفته، من أن يجوب القرى والبلدات اللبنانية ويستمع الى مشاكل الناس ويدوّن حكاياتهم في أوراق خاصة. وعندما بلغ سن التقاعد في العام 1975 بدأ حياته الفكرية وولد كتابه الأول “لئلا تضيع”…
يقول سلام الراسي شارحا مضمون الكتاب:”على ألسنة اللبنانيين اصطلاحات في الكلام يفهمها عامة الناس حسب مضامينها المتعارف عليها في الحديث لا حسب معاني كلماتها. فاذا تكلمنا عن رجل معتد بنفسه قلنا: ضارب حالو بحجر كبير… واذا كان من الصعب محاسبته على جرم ارتكبه قلنا: ذنبو عا جنبو… واذا كان سريع الخاطر قلنا: جوابو تحت باطو… واذا سبق أحدنا الى رأي قلنا: عمرك أطول من عمري… وغير ذلك من الاصطلاحات الجميلة.”
اذا، في الستين من عمره بدأ سلام الراسي نشاطا كتابيا وثقافيا مميزا، توجه فيه نحو الناس يكتب عنهم ويحكي لهم ولاولادهم حكايات أسلافهم وآبائهم، عبر توجّه أدبي أسماه “أدب الناس للناس”.
اختار سلام الراسي “أبطاله” من أبناء قريته ابل السقي ومن بعض قرى جبل عامل والشوف وصولاً الى أبناء رأس بيروت الأصليين والوافدين: العامل والفلاح والمعاز والإسكافي والنادبة والناطور والمختار والجن ورجال الدين والسياسة والطوائف والأقارب والجيران. فمن طينة هؤلاء وأمثالهم من رموز الريف اللبناني، أسس سلام الراسي خشبة مسرحه وأدبه الشعبي.
أغنى سلام الراسي المكتبة الأدبية بثروة فذّة من النتاج الادبي الشعبي العربي. وصدر له عددا من الأعمال هي: لئلا تضيع-في الزوايا خبايا-حكي قرايا وحكي سرايا- شيح بْريح-الناس بالناس-حيص بيص-الحبل على الجرار-جود من الموجود-ثمانون أو العمر الدائب في البحث عن المتاعب-أقعد اعوج واحكي جالس فضلا عن مجموعة الأعمال الكاملة التي توزعت على أربعة أجزاء.
لم ينل سلام الراسي قسطا كبيرا من النقد، بل على العكس، كتب أكاديميون رسائل واطروحات جامعية عن سلام الراسي، على اعتباره جامعا للتراث الشعبي في لبنان.
وظلّ سلام الراسي يتنقل في مسالك الحياة الحلو منها والمر، حتى كان له أن يغادر الدنيا في 28 نيسان/ابريل عام 2003 عن عمر يناهز الواحد والتسعين عاما مغنيا ثقافة أمته ومثريا أدبها ومميزا وجوده فيها بعطاء كبير خوّله أن يكون باجماع معاصريه، فضلا عن دارسيه الأكاديميين، شيخا للأدب الشعبي في لبنان، ورائدا من رواد التفاعل الحي مع التراث الأدبي الشعبي في العالم العربي.
انتهت رحلة سلام الراسي التي انطلقت من هذه البيئة المشبعة بعبق ريف جنوب لبنان. ثم من وظيفته الحكومية، وصولا الى اهتمامه بأدب الناس وعباراتهم الجميلة التي شكّلت نسيجا تسربل به عقل سلام الراسي وتجلبب به لسانه الفصيح.