شاعر القطرين خليل مطران… الأسد الباكي والصوت الصادح ضد الطغيان

 

 

“الدنيا نيوز” – دانيا يوسف

 

حملت منذ وقت مبكر لقب شاعر القطرين. لقب شكّل نوعا من الإزدواجية شملت شعرك وحياتك معاً. فأنت أولاً شاعر القطرين أي مصر ولبنان، لبناني الجذور ولكن مصريّ المقام والسيرة. وأنت ثانيا حملت هوية شعرية مزدوجة كشاعر مقلّد ومجدد في وقت واحد.
خليل مطران:”سأختصر أمامك ازدواجيتي الشعرية بأبيات بسيطة
خواطر وضّاءة بها ملامح السهر
ألبستها من أدمعي ومن دمي هذي الحبر
قشيبة غربية عصرية نسج مُضَر
فأنا أردت للشعر أن يكون مرآة صادقة لعصرنا وأن يواكب الجديد ويتغيّر مع بقائه شرقياً وعربياً وهذا ليس بإعجاز.”
لنتعرف اليك بداية في المكان الجغرافي وفي الوسط العائلي الذي ولدت فيه ونشأت وكوّن الملامح الأولى لشخصيتك.
خليل مطران:”ولدت عام 1868 في مدينة بعلبك الملقبة بمدينة الشمس. والدي عبده يوسف مطران كان تاجراً ميسوراً وكان مثقفاً أيضاً. وكان معروفاً في المدينة بأنه حفظ عن ظهر قلب أشعار ابن الفارض الصوفية. أما والدتي ملكة صباغ الفلسطينية الأصل فكانت معروفة بنظم الشعر فى المناسبات. وقد ترك هذا البيت الثقافي تأثيره المباشر عليّ منذ البدايات.”
وماذا عن سنوات التحصيل الدراسي؟
خليل مطران:”بعلبك مسقط الرأس وكتاب التهجّي بها كبا بي الجواد وتهشّم وجهي فكانت الكبوة الاولى في ميدان الحياة ولمّا أناهز السابعة من سني. زحلة كتّاب القراءة الأولى ومبدأ تنبه الفكر. بيروت المدرسة التي بلغت فيها التأديب وربت قلمي فيها بالنثر والشعر واستاذاي قبل الاجازة هما المرحومان الشيخ خليل ثم الشيخ ابراهيم اليازجي. تتلمذت في الكلية البطريركية للروم الكاثوليك واخذت من اللغات العربية والفرنسية اصلا والانكليزية والتركية والاسبانية مشاركة.
في بيروت بدأت عملي الصحفي فنشرت مقالات في “لسان الحال” وانا تلميذ واستكتبت في صحيفة الأحوال من يوم تأسيسها الى أن هاجرت.”
بين معابد بعلبك وجدرانها شبّ الفتى تحيطه الطبيعة البكر والعبق التاريخي.
بعد تخرّجه من الكلية البطريركية، بدأ خليل مطران ينظم الشعر الوطني مستنهضا همم شعبه لمواجهة سطوة المحتل، إذ عانى لبنان من وطأة الحكم العثماني. ولم يملك الشاعر الشاب إلاّ القصائد ليعبر بها عن رفضه هذا الواقع ضد السلطنة العثمانية والاستبداد الحميدي فتعرض مطران لضغوط ومضايقات من الأتراك كادت تودي بحياته.
في العام 1893 بدأ خليل مطران العمل فى تحرير صحيفة “الأهرام” إلى أن انتقلت عام 1899 من الإسكندرية إلى القاهرة. فاقترح عليه بشارة تقلا أن يرأس تحريرها لكنه لم يبق فى الموقع سوى عام واحد. فأنشأ مجلة خاصة به هي مجلة “المجلة المصرية”. وقد ساعدته المجلة على توثيق علاقاته بأدباء مصر. وكان من أبرز من تعرف إليهم وأقام معهم علاقة زمالة شعرية كل من أمير الشعراء أحمد شوقي وشاعر النيل حافظ ابراهيم ومحمود سامى البارودي رفيق أحمد عرابي فى الثورة. وكان قد نشر لهؤلاء الشعراء الكبار بعض قصائدهم فى المجلة. لكن خليل مطران أوقف المجلة بعد عامين من صدورها عام 1902. وأصدر فى العام ذاته جريدة يومية بالإشتراك مع صديقه الصحافي اللبناني يوسف الخازن، باسم “الجوائب المصرية”. لكنها لم تعش طويلاً بسبب كلفتها العالية.
ماذا بعد حالة اللااستقرار في العمل الصحفي أيها الشاعر؟
خليل مطران:” بإقفال المجلة والجريدة انطلقت أعبّر عن ذاتي بالشعر. وإذ أدركت أن الشعر وحده لا يساعدني على العيش مارست التجارة ففتحت دكاناً صغيراً. ولم يسعفني هذا العمل التجاري على كسب عيشي ولا رأيته ملائماً لشخصيتي. فتركت التجارة وبدأت أدرس الإقتصاد. لكني لم أوقف مغامراتي بحثاً عن المال. فاشتغلت فى البورصة وفي مضارباتها. وقادتني تلك المغامرة إلى خسارة كل ما كنت قد وفره من مال. وقد تركت تلك الكارثة أثرها السلبي عل روحي وكتبت قصيدتي الشهيرة الأسد الباكي.”
وهل لك أن تقرأ لنا مقطعا منها؟
خليل مطران:”بكل سرور
دعوتك أستشفي اليك فوافني على غير علم منك أنك لي آسي
فان ترني والحزن ملء جوانحي أداريه فليغررك بشري وإيناسي
وكم في فؤادي من جراح ثخينة يحجّبها برداي عن أعين الناس
أسرّي همومي بانفرادي آمنا مكايد واش أو نمائم دسّاس
أنا الألم الساجي لبعد مزافري أنا الأمل الداجي ولم يخب نبراسي
أنا الأسد الباكي، أنا جبل الأسى أنا الرمس يمشي داميا فوق أرماس”
نتابع تطور شخصية خليل مطران الشعرية والثقافية، ونتوقف عند مراحل عصر النهضة في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
عام 1912 منح الخديوي عباس حلمي خليل مطران “الوسام المجيدي الثالث” وأطلق لقب “شاعر القطرين” عليه مرفقاً بأمر خديويّ بإقامة حفل تكريمي له فى الجامعة المصرية. وشارك فى حفل التكريم كبار أدباء العالم العربي. لكن تكريم الخديوى لم يكن معنوياً وحسب. بل هو استكمل بتعيين مطران أميناً مساعداً للجمعية الزراعية الملكية وهو المنصب الذى استمر فيه طوال حياته.
جاء مطران بمذهب الحرية الفنية التي تحترم شخصية الفنان واستقلال الفن عن الصناعة والبهارج والأناقة الزخرفية. وكان يجهد لكي يكون مجدداً فى الشعر، من دون أن يفقد علاقته بقديم الشعر المنسوب إلى الكلاسيكية.
تناول مطران فى شعره العديد من القضايا والمواضيع. وكتب في الشعر القصصي. وتغنى بالطبيعة وبجمالها وحمّلت بعض قصائده ملامح رومانسية واضحة.
خليل مطران:
“يا للغروب وما به من عبرة للمستهام وعبرة للرائي!
أوليس نزعا للنهار وصرعة للشمس بين مآتم الأضواء؟
أوليس طمسا لليقين ومبعثا للشكّ بين غلائل الظلماء؟
أوليس محوا للوجود الى مدى وابادة لمعالم الأشياء؟
حتى يكون النور تجديدا لها ويكون شبه البعث عَود ذكاء”
لكن ما استقر في شعره وأعطاه اسمه الكبير هو اهتمامه بقضية الحرية، وموقفه الثابت والصاخب ضد الطغيان وضد الطغاة.
خليل مطران:
“كسّروا الاقلام هل تكسيرها يمنع الأيدي أن تنقش صخرا؟
قطّعوا الأيدي هل تقطيعها يمنع الأعين أن تنظر شزرا؟
أطفئوا الاعين هل اطفاؤها يمنع الأنفاس أن تصعد زفرا
أخمدوا الأنفاس، هذا جهدكم وبه منجاتنا منكم… فشكرا”
وظل حب الحرية سارياً في دمه كما ظلّ كره الاستبداد شديداً في نفسه. فكان همه نشر هذا الحب وهذا الكره في النفوس لا كشاعر سياسي ذي أغراض سياسية، بل كشاعر إنساني غايته أن يوجّه مواطنيه نحو الحياة المثلى. وقد أعرب عن خنوع أمته وعدم انتفاضتها بوجه المعتدين.
خليل مطران:
“إني مُنيت بأمة مخمورة من ذلّها ولها القناعة مشرب
لا الظلم يغضبهم ولو أودى بهم أتعزّ شأناً أمة لا تغضب؟”
واصل مطران زيارة لبنان على امتداد حياته فى مصر لا سيما لقضاء فصل الصيف فى ربوع وطنه. وحين اشتدت عليه بعض الأمراض التي كان يعاني منها، شعر بدنو أجله. فوضع وصية يطلب فيها دفنه فى مسقط رأسه “بعلبك”. وغادر الحياة عام 1949 ودفن، وفق وصيته في بعلبك. وأقيم له عام 1966 نصب تذكاري بالقرب من قلعة بعلبك التاريخية التي كان قد نظم في تمجيدها عدداً من قصائده . ويقول مطران فى إحدى قصائده الأخيرة قبل الرحيل، فيما يشبه الوداع:
خليل مطران:
“ماذا يريد الشعر مني؟ أخنى عليه علوّ سني
هل كان ما ذهبت به الـ أيام من أدبى وفني
أحسنت ظني، والليـالي لم توافق حسن ظني
ورجعت من سوق عرضت بضاعتي فيها بغبن
أفكان ذلك ذنبها أم كان ذنبي؟ لا تسلني!”
لكن لخليل مطران جوانب أخرى فى حياته وفي نشاطه الثقافي والأدبي كان أبرزها اهتمامه بترجمة الكتب في التاريخ والاقتصاد والتربية. فضلاً عن ترجمته لقصائد من الشعر الفرنسي ولعدد من الأعمال المسرحية. ويعتبر كتاب “مرآة الأيام فى ملخص التاريخ العام” من أهم ترجماته فى مجال التاريخ. يتناول الكتاب صفحات من تاريخ اليونان والرومان وتاريخ القرون الوسطى وتاريخ مصر والهند وفينيقيا وتاريخ العرب وتاريخ الحروب الصليبة ومعظم الحضارات وصولاً إلى مطالع القرن العشرين.
خليل مطران وان حمل لقب شاعر القطرين لكنه لم يرتق إلى موقع الإمارة فى الشعر التي أعطيت لأحمد شوقي. غير أن إمارة شوقي للشعر لم تسدا على الكبار من شعراء ذلك العصر الطريق إلى المجد الشعري بل إن بعضهم تساوى فى القيمة الشعرية معه وبعضهم فاقه رفعة فى نظر بعض كبار النقاد، وفى مقدمتهم طه حسين الذي قال في خليل مطران يوم وفاته: “لقد عرفت مطراناً وكنت معجباً بشعره، مؤثراً له على شعر المعاصرين جميعاً في الأقطار العربية كلها. ولم أستثن منهم واحداً. ولن أستثني منهم أحداً. وكنت أسمع لشعره ولشعر حافظ وشوقي، فأوثر شعر مطران فى وجه حافظ وشوقي. لا أحتاط إلا في ديباجته التي كنت أراها مقصرة عن معانيه بعض التقصير. وكان حافظ وشوقي يسمعان ولا ينكران، أو لا تنكر ألسنتهما على كل حال. وكنت أزعم لهما جميعاً أن مطران في المحدثين كأبي تمام فى العصر القديم، وأنهما وغيرهما من الشعراء يعيشون حول مطران، كما كان شعراء الشام والعراق يعيشون حول أبي تمام”.