سحق الرؤوس ..!

بِقَلَم ألعَميد مُنذِر ألأيوبي *
هي بقعة جغرافية تضم جنوب غرب أرمينيا، جنوب شرق تركيا، شمال غرب إيران، شمال شرق سوريا، وشمال ألعراق حيث يتوزع 40 مليون مواطن كردي تقريبآ يشكلون مجموعة عرقية أقلية في هذه الدول ألخمس ، على مدى تاريخهم تعرض الشعب الكردي لإضطهاد قاسٍ و ظروف إنسانية صعبة كما أُحبِطت جميع محاولاته و حرم من إنشاء دولته ألمستقلة ..
في لمحة مختصرة و بعد تفكيك السلطنة ألعثمانية إثْرَ الحرب العالمية الأولى و التوقيع على معاهدة “سيفر” عام 1920 Treaty of Sevres التي نصت على وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني و سوريا تحت الانتداب الفرنسي وعلى إنشاء دولة كردستان مع منحها حكمآ ذاتيآ وجد ألأتراك أن هذه المعاهدة إقتصَت منهم مما دفعهم الى التمسك بقوميتهم و ألهب جذوة حركة إستقلالية بقيادة مصطفى كمال اتاتورك و بإنتصاره سقط مشروع ألدَولَة ألكردية المستقلة حيث حَددت و رَسَمت معاهدة لوزان Lausanne الموقعة عام 1923 حدود تركيا الحديثة ، بألتالي و ضمنيَآ تم كبح جماح فكرة ألتوسع أو احتلال أراضي أية دولة مجاورة مستقبلآ على خلفية دائمة بِ إحياء حلم السلطنة العثمانية إن تمكنت ..
من جهة أخرى ، أتى قرار الرئيس الاميركي دونالد ترامب بإجلاء القوات الاميركية من شمال سوريا
سواءً كليآ أو جزئيآ بمثابة موافقة غير مباشرة و مشروطة ضمن حدود مرسومة مسبقآ للرئيس ألتركي أردوغان بغية بدء عمليته العسكرية ألهادفة إلى إقامة المنطقة ألآمنة أو العازلة و تَدمير ما سُميَ “ألممر ألإرهابي” عبر الحدود التركية الجنوبية ألذي بدأ إنشاؤه من قبل وحدات حماية الشعب الكردية ..
سريعآ و إثر تحرك القوات التركية و توغلها في العمق السوري بدا جليآ أن خريطة الميدان لن تخضع لرتوش سطحية بل أن ألتَموضع ألعسكري للقوات المتورطة في المستنقع السوري سَيَرسُم حدود ألقلق أو ألإرتياح جيو إستراتيجيآ بألتوازي مع ألربح أو ألخسارة على ألمستوى ألتَكتي ألمرحلي ألحالي ..!
هذا ما تبلورت ملامحه بعد ألطعن ألأميركي في الظهر للحليف الكردي عبر إلتقاء القوات الكردية “قسد” مع الجيش السوري النظامي في ألأهداف و التسليم ألنهائي بالإنتماء للدولة السورية ‏⁧و وحدة أراضيها على قاعدة “مُرغمآ أخاك لا بطل”، إضافة إلى مظلة الحماية الشرعية التي سيسبغها ألجيش السوري على هذا التحالف و من خلفه الدعم ألروسي – سيما و أن العلاقة بين النظام السوري و الأكراد بقي وفق معادلة “التفهم و التفاهم” مع منحهم سلطة الحكم الذاتي منذ عام 2012 – هو السبيل الوحيد للوقوف في وجه الغزو التركي من جهة و تنظيم الدولة الإسلامية “داعِش” من جهة أخرى ، و خير مثال ما حصل من تسليم لِمدينتي منبج و كوباني (عين العرب) و بعض مناطق الأرياف الحدودية في الشمال الشرقي ..
مما لا شك فيه أن رهان ألأكراد على ألتحالف مع الأميركيين لم يؤدِ إلى ما ترقبوه واقعيآ أو حلموا به
في تحقيق ألكَيان ألكردي المستقل ، كما ضاعف من غضبهم و مَسَ في عنفوانهم تغريدات ألإستهزاء
و تصريحات أللامبالاة تارة و ألإزدراء تارة أخرى للرئيس الاميركي – من أقواله : لم يقفوا إلى جانب أميركا في معركة النورماندي ؛ ليستعينوا بِ نابوليون ليحميهم ..إلخ-
بألتزامن ، سُجل أستياء رسمي عارم في الداخل الاميركي و الدولة العميقة من قرارات الرئيس ترامب ألإرتجالية و تصريحاته الدالَّة على عدم وفاء ألولايات المتحدة بِإلتزاماتها تجاه حُلفائها و ذلك سواء من مجلس النواب بأغلبيته الديموقرطية أو أركان وزارة الدفاع -ألبنتاغون- كذلك بعض أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين كألسناتور ليندسي غراهام Lindsey Graham ألأمر الذي دفعه (ترامب) الى فرض عقوبات اقتصادية على تركيا شملت ثلاثة وزراء ، طالبآ من أنقرة وقف القتال و إنهاء إجتياحها العسكري فورآ ، تلا ذلك توجيه رسالة الى الرئيس اردوغان تصب في نفس الاتجاه لم تخلو عباراتها كالعادة من ألتهديد و الاستعلاء : “أنت لا تريد ان تكون مسؤولآ عن ذبح آلاف ألناس و أنا لا اريد ان أكون مسؤولا عن تَدمير الاقتصاد ألتركي و سأفعل ذلك”..
في سياقٍ مُتَصل ، لَم يَكتفِ مجلس النواب الاميركي بِتغريدات ترامب و تصريحاته إذ وجه في جلسته الأخيرة اوائل الأسبوع الماضي و بأغلبية 354 عضوآ من أصل 435 صوتآ إنتقادات لاذعة بحقه مستنكرآ قراره سحب القوات الاميركية من شمال سوريا مطالبآ في آنٍ معآ الرئيس التركي بوقف عملية “نبع السلام” ألعسكرية و العودة الى ألخط ألحُدودي ألدولي .. من هذا المنطلق أثمرت زيارة نائب الرئيس الاميركي مايك بنس و وزير الخارجية مايك بومبيو الى انقرة يوم ألخميس ألماضي وقفآ لإطلاق النار و تعليقآ للعملية العسكرية حتى يوم غد الثلاثاء على أن تنسحب وحدات حماية الشعب الكردية من المنطقة ألعازلة قبل إنتهاء المهلة ألمُعطاة ..
بِألمقابل ، و بصرف النظر عن محاولة استكمال انتشار الجيش السوري على طول الحدود التركية السورية بُغيَة صد الغزو التركي و تحرير المناطق التي إحتلها ، بَدا وفق ما تسرب أن ألإتفاق بين النظام السوري و ألأكراد و الذي تم برعاية من الجانب الروسي و أعلن عنه الأسبوع الماضي قد تضمن بنودآ سرية تتعلق بألجوانب السياسية ألمُشتركة و إستشراف مستقبل العلاقة بينهما لجهة ألإبقاء على الإدارة الذاتية للمناطق ألكردية ، أما في ألجانب العسكري فبعد توطيد سلطة الدولة السورية و دخولها مدينة ألرَقَّة سيتم حل قوات سوريا الديمقراطية و وحدات حماية الشعب كذلك أجهزة ألأمن و ألإستخبارات و إلحاقها بألقوات المسلحة السورية ..
إستنادآ لهذا الاتفاق يبدو أن ألأكراد سيكتفون بألحفاظ على مؤسساتهم ألمدنية و إداراتهم مع قناعتهم ان الدولة السورية و بألرعاية الروسية لن تسلبهم حقوقهم مثل هويتهم القومية ، تعليم اللغة الكردية إضافةً إلى المجالات التجارية و الثقافية ، فألظروف تغيرت و ما كان ألنِظام يمارسه بحقهم قبل الحرب السورية مُختلف عما بعدها كما أن ضمان حقوقهم السياسية سيتم من خلال اللجنة الدستورية إسوة بباقي شرائح الشعب السوري ..
على هذا ألأساس ، بإنتظار إستكمال وحدات الجيش السوري إنتشارها في ظل إنهيار شبه كامل لتنظيم الدولة الإسلامية “داعِش” و توالي إستعادة المدن و القرى السورية إلى كنف النظام و بألتالي ألإصرار على وقف العمليات العسكرية للجيش التركي تمهيدآ لإنسحابه لاحقآ ، أي بعد الحل النهائي في سوريا فإن قطع ألبازل Puzzle لخريطة ألتَموضع و النفوذ و السيطرة بعد الخروج الاميركي ألعسكري و ألذي سيتبعه حكمآ الأوروبي باتت تتعلق بثلاثة دول هي روسيا ، إيران و تركيا ..
خِتامَآ ، يوم ألسبت أول من أمس هدد ألرئيس أردوغان بمعاودة الهجوم و تعليق الهدنة الهَشَّة على خط وقف إطلاق النار ألمتماسك حتى ألآن ، إثْرَ إتهامات متبادلة بخرقه بعد عدة مناوشات متقطعة بين الجيش التركي و ألمقاتلين ألأكراد قائلآ : ” إن تركيا ستسحق رؤوس ألإرهابيين “ألأكراد” إذا لم ينفذ إتفاق الهدنة كاملآ “.. و من ألسخرية بمكان أن وحدات ألحماية الكردية لا تزال تسيطر و تحرس و تدافع عن سجونها حيث يُعتَقل حوالي 10.000 إرهابي يتبعون تنظيم داعِش و الفصائل الارهابية الأخرى ألمتشددة سحقوا رؤوس ألأبرياء ألعُزل جَهارآ نَهارآ عُهرآ و كُفرآ ، هؤلاء يحاولون اليوم الفرار من سجونهم منتظرين و مستغلين التوغل العسكري التركي ..!
ألسؤال هُنا ؛ هل سيتمكن ألرئيس أردوغان من إمساك مفاتيح السجون الكردية و بألتالي إطلاق سراح ألقتلة متى أراد سواءً رَغبةً مِنهُ أو إبتزازَآ لِغَيرِه ..؟ غَدآ ستَحُط طائرته على ألمدرج رقم 06/24 في مطار مدينة سوتشي ألدولي Sochi IA للقاء ألرئيس ألروسي بوتين بصورة طارئة حيث تخرج معظم القرارات
و ألأجوبة على ألتساؤلات وَ (ألتَشاطُر) دون تراجع ، و حتمآ لا عودة إلى ألوراء ..!
*عَميد، كَاتِب وباحِث في ألشؤون ألأمنية وألإستراتيجية.
بيروت في 20.10.2019