دست السمَّ لزوجها بماء الشرب ودفنته على عجل .. لكن مرصاد الشرطة القضائية كشف الجريمة بعد نبش الجثة

سجلات الجريمة في أرشيف الشرطة القضائية حافلة بعمليات قتل وجرائم مختلفة فيها من الغرابة، ومستوى الاجرام ما يندى له الجبين، لكن مستوى الاحتراف في عمليات كشفها ايضاً يسجل لضباط وافراد “التحري” ولرجال الضابطة العدلية .

هنا واحدة من الجرائم التي يستذكرها قائد الشرطة القضائية السابق العميد أنور يحيى لجريدتنا  “الدنيا نيوز”.

بقلم : العميد أنور يحيى*

 

أثناء عمليات الأجتياح الأسرائيلي للبنان صيف 1982، شهدت بلدة القرين، قضاء المتن في جبل لبنان وفاة جوزاف (73 عاما)، وقد دفنت الجثة بشكل طبيعي في مقبرة البلدة من دون أي كلام عن ظروف الوفاة.
بعد حوالي أسبوع من الدفن وصلت معلومات الى قاضي تحقيق بعبدا:الأستاذ سعيد ميرزا تشير الى أن تلك الوفاة ليست طبيعية، أنما كانت تسميماً مقصوداً شربه المغدور في أبريق من الفخار أعتاد الشرب منه بظل أنقطاع التيار الكهريائي في حينه…
أصدر المحقق أستنابة قضائية كلف بموجبها مفرزة بعبدا القضائية،بأمرة الرائد أسكندر شلفون، وعناصر الأدلة الجنائية فيها أعادة الكشف على مسرح الجريمة وجمع المعلومات والأدلة وأستماع الشهود والمشتبه بهم وأستخراج الجثة عند الحاجة وأعادة الكشف الطبي الشرعي عليها ومخابرته.
كلف الرائد شلفون المعاون عبد الرحمن فاضل،رئيس دورية الأدلة الجنائية العاملة بنطاق المفرزة ،الذي ترأس فريق من التحري العاملين فيها ، للتفرغ والتحقيق والتحري عن ظروف وفاة جوزاف في القرين!
أنتقل المعاون فاضل وفريقه الى منزل المتوفي في البلدة وتبين لهم ما يلي:
يعيش جوزاف في منزل يتقاسمه مع زوجته روز، والعلاقة بينهنا سيئة منذ سنتين وقد قسم المنزل الى شقتين يفصل بينهما حائط من الخشب الثابت، وكان الجيران يسمعون الشجار بينهما والشتائم المتبادلة دون أمكانية تسوية الأمور وأعادة الحياة الزوجية الى طبيعتها حتى بتدخل الكاهن!.
وأفادت أحدى السيدات التي تقيم على مقربة من المنزل بأنها شاهدت الزوجة ترمي بأبريق من الفخار خارج سور المنزل ثاني يوم الوفاة وقد أصرت أن تقطعه قطعاً صغيرة بشكل ملفت للنظر!
كما ذكرت أحدى السيدات التي ترتبط بصداقة مع الزوجة روز بأنها سمعتها تقول:يا ريت بيموت بالسم وبيريحني منو، وبتعرّف عا زوج جديد!

توجهت الدورية الى مكان بقايا الأبريق المحطم وقد أضحى حوالي المئة قطعة صغيرة . جمعوا الأجزاء وفقا لصورة رسمتها سيدة من الجيران بيدها،سبق لها أن شاهدته عند جوزاف، وبحسب الألوان على الأبريق، تم على مدى ساعات أعادة تكوينه وتركيب القطع الصغيرة عبر التلزيق ليظهر دون لمس القطع من الداخل، وأودع المختبر المركزي في وزارة الصحة، وكانت رأئحة السم ما تزال عالقة على بعض القطع من الداخل!
أنكرت الزوجة أقدامها على دس السم لزوجها، وأصرت على أنه مات بشكل طبيعي وكان يعاني من الربو، وأنها رغم سوء العلاقة معه، فهو زوجها ورب العائلة… كما أنكرت رمي الأبريق خارج سور المنزل وتحطيمه قطعا صغيرة ، وعند مجابهتها بنتائج تحليل المختبر المركزي بوجود بقايا السم على بعض القطع، رغم مرور عشرة أيام على دفن زوجها، أصرت بانها لا تعلم شيئا عن ذلك.
قاضي التحقيق في جبل لبنان، الرئيس ميرزا،  وبعد أن إتطلع من المعاون عبد الرحمن فاضل،بنتائج تحليل المختبر المركزي الذي أكد وجود بقايا السم على بعض الأجزاء أشار باستخراج الجثة من المدفن ،رغم مرور12 يوما على دفنها،وتكليف الطب الشرعي أخذ أجزاء من المعدة أو غيرها والتحقق من طريقة الوفاة وعما أذا هناك بقايا من السم؟ .
أستدعي الطبيب الشرعي الدكتور فنيانيوس، وبعد أخراج الجثة من المدفن، عاينها بدقة وأخذ بعض الخزعات من المعدة والأمعاء وأرسلت الى المختبر المركزي،حيث تبين وجود بقايا السم الذي تطابق مع تلك الموجودة على بقايا الأبريق الذي تم جمعه والذي شرب منه المغدور، وحطمته الزوجة شر تحطيم!
بعد إطلاع القاضي ميرزا على نتائج تحاليل المختبر المركزي، أشار بأستدعاء الزوجة الى المفرزة للتحقيق معها شخصيا، وعندما علم أحد أبنائها وهو مسؤول في ميليشيا مسلحة نافذة في حينه هدد بقتل كل من يستدعي والدته للتحقيق، واتصل بالقاضي ميرزا مهددا ومتوعدا ومؤكدا براءة أمه وأن والده مات نتيجة نوبة ربوة فقط.
لم يرضخ القاضي ميرزا للتهديد وتوجهت دورية معززة من المفرزة ورغم أنتشار الميليشيا المسلحة المدعومة من جيش العدو الإسرائيلي الذي كان قد وصل الى مشارف بيروت، ويقيم الحواجز المسلحة متعاونا معها على الطرقات، واقتادت الزوجة الى مفرزة بعبدا القضائية حيث حضر القاضي ميرزا والرائد شلفون وبحضور المعاون فاضل الذي شرح لهم نتائج أقوال جارتها التي شاهدتها تحطم الأبريق الذي شرب منه زوجها وكيف أصرت على تحطيمه قطعا صغيرة ، وكيف أنها قالت أمام أحداهن بأنها تتمنى أن يموت جوزاف بالسم لتتزوج رجلا أخر تمضي معه بقية عمرها بسعادة وحب وعلاقات طبيعية! وأن نتائج السم من معدة الزوج طابقت نوعية السم المتبقي على بعض أجزاء الأبريق.
رضخت الزوجة للحقيقة وأعترفت بأنها أشترت السم من دكان في البلدة ،بحجة القضاء على الحشرات السامة، وقررت التخلص من جوزاف الزوج، فرسمت الخطة بأن تتقرب منه متوددة ووعدت بمرحلة حب جديدة تحضر له التبولة ويشربان كأساً من العرق سوية وعهد جديد من الحب بين الزوجين !!.
نفذت الزوجة الخطة التي رسمتها، وفوجىء الزوج بزوجته تدخل ومعها التبولة والعرق وبعض الأطعمة ومعتذرة عن تصرفاتها السابقة، وقد وضعت بعض السموم بأبريق من الفخار أعتاد جوزاف شرب المياه الباردة منه مع أنقطاع الكهرباء نهائيا أثناء عمليات الأجتياح الأسرائيلي صيف 1982.
وما لبثت أن خرجت بعد تناول الأطعمة سوية وبدأت معاناة جوزاف وأستغاثته، وقد ظل وحيدا حتى لفظ أنفاسه الأخيرة.

تم دفنه بظروف سريعة أثناء العمليات الحربية وحتى دون الكاهن نظرا للقصف العنيف الذي أستهدف القرية..
أعترفت للمحقق القاضي ميرزا، بأنها أقدمت على ذلك لتتحرر من عقد زواجها وأن حياتها معه لا تطاق لاسباب عديدة!
أصدر القاضي ميرزا مذكرة توقيف وجاهية بحقها، وأودعت السجن ونالت نصيبها جزائيا من محكمة جنايات جبل لبنان.
كان لذكاء المعاون فاضل وجَلَدِهِ الطويل أثناء جمع أجزاء الإبريق المتناثرة والصغيرة الذي أستخدم لقتل جوزاف، ونتائج التحليل والمقارنة لبقايا السم على بعض أجزاء الأبريق الصغيرة،مع تلك المستخرجة من أمعاء المغدور جوزاف، وجدارة القاضي ميرزا وشجاعته،بحيث لم يأبه لتهديد أبن الزوجة، وهو المسلح النافذ بحينه أثناء الأجتياح الأسرائيلي، الفضل الأكبر بجلاء خفايا جريمة قتل جوزاف، وقد حضر العميد محمود طي أبو ضرغم،قائد الشرطة القضائية،الى المفرزة ونوّه بأشراف الرائد أسكندر شلفون ومتابعة المعاون عبد الرحمن فاضل وفريقه بصبر ودقة وجمع المعلومات بصورة سرية عن ظروف وفاة المغدور جوزاف، وأعفى قاضي التحقيق بعض الشهود من الأفادات الخطية، وأكتفى بمعلومات سرية قدمها بعضهم الى المعاون وفريقه ، لا سيما بعد أن أعترفت الزوجة بقتل زوجها!.
أن لدى الشرطة القضائية قدرات بشرية كفؤة وتعتّمد أساليب التخفي لجمع المعلومات والتحري عن الحقيقة،وقد تم تجهيزها بمختبرات جنائية متطورة وعناصر مثقفة ومدربة للعمل بالحقل الجنائي ، للتمكن من تنفيذ دورها كضابطة عدلية مساعدة للنائب العام والقضاة، ولها تاريخ عريق بكشف الجرائم لا سيما الغامضة منها جرائم:القتل،الأغتصاب،التزوير،المخدرات، حقوق الأنسان، تبييض الأموال، وغيرها، لكن هل تعود الأيام لتمارس دورها الطبيعي والقانوني وتتصدى للجريمة بجدارة كما كانت، بظل أندثار هيبة الدولة التي تستعطي الغذاء والدواء والمحروقات لتامين وصول عناصرها الى أعمالهم، وفساد سياسي غير مسبوق أدى الى أنهيار مالي ،وفقدان الثقة الدولية بالإدارة اللبنانية ؟؟

———————-

*قائد الشرطة القضائية (2005-2010)