حديث النخبة والصفوة …

 

بقلم : توفيق شومان*

ينتقد اللاديمقراطيون ، الديموقراطية السياسية ، ويتتبعون عيوبها ويترصدون نواقصها .
بالأصل ، ومنذ مرحلة الديموقراطية في مدينة اثينا قبل الميلاد ، وحتى القرن الواحد والعشرين الميلادي ، لم يحدث أن أحدا من الديموقراطيين استثنى الديموقراطية من العيوب ، أو اعتبرها نظرية كاملة الأوصاف ومكتملة الصفات .
في المقابل ، يغدق اللاديموقراطيون على نظرياتهم ما تيسر لهم من محاسن ولطائف وبدائع ، فيوغلون في إطنابها ، ويكيلون لها مدحا وحمدا ، ويهيمون في تبجيلها وتمجيدها ، مما يعني بحسب اللاديموقراطيين أن اللاديموقراطية مطلقة الكمال وكلية الإكتمال .
وحيال هذه المقارنة التمهيدية بين ديموقراطيين يقرون بنواقص الديموقراطية وبين لاديموقراطيين لا يرون في نظرياتهم عيبا ولا نقيصة : يتقدم إلى واجهة المقارنة سؤال : من العقل الأكثر نضوجا ورجاحة : العقل الذي يعترف بعيوبه أم العقل الذي ينسب إلى حاله الكمال والإكتمال ؟.
تفتح الديموقراطية باب الفرص أمام متنافسين من اتجاهات نخبوية عدة لتقلد مقاليد السلطة وتوابعها ، ومع انفتاح هذا الباب ، تتوسع دائرة المنافسة ، فيما اللاديموقراطية تغلق الباب وتسده ، وتحصر سلطات الحكم بقبضة اتجاه واحد يُسقط على نفسه صفة النخبة أو الصفوة أوالأخيار أو الطليعة .
السؤال الثاني المتأتي من مقارنة ثانية : أيها أكثراحتراما للناس والمجتمعات : الديموقراطية التي تشهد على التعددية النخبوية لدى الجماعات المتعددة ، أو اللا ديموقراطية التي تنكر على الآخرين إنتاج نخبهم وتزعم احتكارها للصفوة والعقول الراجحة ؟.


غالبا ما يقول اللاديموقراطيون إن مهمات الحُكم والسلطة تقع على عاتق النخبة ، وهذا قول متفق عليه ولا جدال حوله ، ولكن من يحدد النخبة ؟ وما مواصفاتها ؟ وماذا لو تنازعت الجماعات والإتجاهات على التحديد والتوصيف ؟ لمن تكون كلمة الفصل حينذاك ؟ للسيف والدم أم للإنتخاب و لصناديق الإقتراع ؟.
هذا السؤال له إجاباتان لدى اللاديموقراطيين ، الأول هو السكوت والصمت ، والثاني هو السيف والدم .
وبما أن السكوت والصمت يعنيان اللاشيء وحيث لا يمكن نقاشه أو التعليق عليه ، يبقى هذا السؤال : أيهم أكثر إنسانية : الديموقراطيون الذين يقولون إن الحسم عبر صناديق الإنتخاب ، أم اللاديموقراطيون الذين يشهرون سيوفهم ويقولون إن الحسم عبر الدم ؟ الديموقراطيون الذين يقولون بالمنافسة ام اللاديموقراطيون الذين يقولون بالصراع ؟.
وحول النخبة أيضا ، يقول اللاديموقراطيون إنهم لايقصدون بنظريتهم السياسية التفرد بالحُكم والإستبداد ، بل ثمة دور للنخبة من خلال الأخذ برأيها والتشاور معها أو الإستماع إلى توصياتها ، والسؤال هنا : من هي تلك النخبة التي يؤخذ برأيها ؟ أهي ” النخبة السياسية ” التي تنتجها الشمولية فتكون من نوعها وتحت طاعتها؟ أو “النخبة العشائرية أوالقبلية أو الجهوية ” التي تستمد حضورها من الغلبة والوراثة ولا يكون لمن تحتها رأي ولا قول ؟ أو ” النخبة المالية والتجارية ” التي تنمو في ظل ورعاية نظام لاديموقراطي فتكون وجهه المالي والطبقي ؟.
أهذه هي النخبة أم هذه مرايا اللاديموقراطية ؟ .
في الديموقراطية تتكون النخبة ذاتيا ، وفي اللاديموقراطية تتكون ” النخبة ” عن طريق الإنتاج والإصطناع ، وإذ يتتالى تجديد النخبة في الديموقراطية تكيفا وتأقلما مع دورة الحياة والأعمار والسنن البشرية ، فإن اللاديموقراطية تجحد ذلك ، وترفض التأقلم مع سنن الحياة والبشر ، وتتمسك بقديمها وماضيها ، وتحول دون التجديد والتطوير والتغيير .
وعلى ذلك يطل هذا السؤال : من الأكثر تصالحا مع السنن البشرية : الديموقراطية التي تجدد نخبها وحياتها أم اللاديموقراطية التي تتجمد على حالها فتتوقف معها دورة الحياة ؟.
اللاديموقراطيون يقولون إنه من أجل الحفاظ على الأمن والإستقرار ، من الضروري أن يسود الرأي الواحد ، ويقول الديموقراطيون إن تسييد الرأي الواحد هو التعسف بذاته ، والتعسف لا يصنع الإستقرار بل يستجلب الرعب ، وللرعب حدود في الزمن ، وما بعد الرعب سوى الإنفجار ولو بعد حين ، ودلائل التاريخ والراهن أكثر من أن تُحصى ، فالرأي الواحد يخالف الإجتماع البشري ، فلا اجتماع على رأي واحد ، علاوة على ذلك ، فإن تسييد الرأي الواحد يؤدي إلى إقصاء الآراء الأخرى وقهرها ، وهذا كله يطرح السؤال التالي : من يعطي لهذا ” الرأي الواحد ” أحقية التسيد والشرعية ؟.
وإلى السؤال السابق ، ثمة سؤال آخر : إذا كانت البشرية قائمة على تعدد العقول والألوان والأعراق والقوميات والثقافات واللغات ، أيها يكون أكثر انسجاما وتناغما مع الحياة والخلق والفطرة : الديموقراطية التي تدير التعددية أم اللاديموقراطية التي تنادي بالآحادية ؟.
في التاريخ عموما ، تكونت السلطة السياسية والمالية عن طريق العنف والقوة ، فأي جماعة مسلحة يفوق عددها ويتفوق سلاحها على جماعة أخرى ، كانت تستلبها وتتحكم بها ، وجراء ذلك نشأت طبقة العبيد والأرقاء ، بين الأسر الكبيرة والصغيرة أولا ، ثم بين تحالف الأسرالمسمى عشائر ثانيا ، ثم بين تحالف العشائر المسمى قبائل ثالثا ، واستمر هذا الأمر إلى ما بعد نشوء الدولة بمفهومها القديم ، فطبقات العبيد والأرقاء والأجراء الذين ما كانوا يملكون إلا ما تجنيه أياديهم من غذاء يحصلونه من زراعة أراضي وحقول الأسياد والإقطاعيين وقادة الجيوش ، كانوا يشكلون الكثرة الغالبة من سكان الأرض ، ولا رأي لهم ولا حول ، وأما الأسياد والإقطاعيون والقادة العسكريون ، فقد مثلوا تلك ” النخبة والصفوة ” التي كان ” يأخذ برأيها ” صاحب الصولة والدولة ، فهل تلك ” النخبة ” هي المطلوبة في عالم اليوم ؟.
بعد نشوء الدولة بمفهومها الحديث ، أي بمعنى المساحة الجغرافية المحددة والجماعة البشرية المعينة وسلطات الحكم المعلومة ، برزت ظاهرة الإنقلابات العسكرية حول العالم ، وبما أن هذه الظاهرة انتهجت القوة سبيلا إلى السلطة ، فقد ركنت إلى عامل القوة ذاته للإحتفاظ بالسلطة ، وهذا ما جعل عامل القوة ميزان تعاملها مع خصومها وميزان تعامل خصومها معها ، فغلب الإضطراب على تلك الدول إلى أن استقامت بالمشاركة.
هذا الإستدعاء لكيفة تشكل ” النخبة ” عن طريق القوة يطرح على بساط الجدال إشكاليتين في غاية الأهمية والخطورة :
ـ الأولى : أية إنسانية تبرر استعباد الناس وتجعلهم رقيقا وعبيدا ، وتجعل في الوقت نفسه أصحاب القوة والسيف ” نخبة محمودة ” أو على ما قال العرب الأقدمون ” أهل الربط والحل “؟.
ـ الثانية : أي استقرار يمكن أن تجلبه ” نخبة مسلحة ” وصلت بالقوة إلى السلطة ، فراح مناوؤها يبادلونها القوة وتبادلهم بالمثل ؟.
يُكثر اللاديموقراطيون الحديث عن ” قلة وعي الشعب ” وتدني فهمه ، وذلك يفقده أهلية الممارسة الديموقراطية التي تتطلب ” وعيا عاليا وفهما رفيعا ” ، وبما أن الوعي غائب عن الشعب ، ويستحيل عليه معرفة الصالحات من الطالحات ، فيجب جره إلى الطاعة جرا !!.
في هذه الأحكام المبرمة ، تظهر الخلاصات التالية :
ـ نظرية الإستعلاء على الآخرين واحتكار المعرفة .
ـ احتقار الناس واتهامهم بالغباء .
ـ الإستئثار بدور ” النخبة ” لتبرير الإسئتثار بالسلطة .
ـ إغلاق باب ” النخبة ” بوجه كل مخالف ومعارض ومجادل .
وأمام تلك الأحكام المبرمة إياها : من يكون الأكثر حرصا على شؤون الناس : الديموقراطيون الذين يحترمون عقول الناس أم اللاديموقراطيون الذين يحتقرون عقول الناس ؟.
جملة أخيرة وسؤال أخير :
من الأكثر إنسانية ؟.
………………………………………………………………