حاصبيا من أقدم مدن التاريخ … عرفت أمماً وحضارات متعددة

 

“أخبار الدنيا” – دانيا يوسف*

هي مدينة وادعة، هادئة في ثوبها الأخضر المرصّع… يدخلها الضيف مرتاحا… وينقلب ارتياحه تأملا متى علم انه يواجه مدينة من أقدم مدن التاريخ تكمن تحت كل حجر من حجارتها حفنة جواهر من كنوز الحضارة.
انها حاصبيا… بلدة التاريخ والحضارة والتراث، زرناها في صبيحة يوم جميل ففتحت ذراعيها مرحبة بنا على عادتها مع جميع ضيوفها…
تقع حاصبيا عند أسفل السفح الغربي لجبل الشيخ وتبعد 120 كلم عن العاصمة بيروت وترتفع حوالي 750 مترا عن سطح البحر…
هي مركز قضاء حاصبيا الذي يضم عشرون قرية ويشكّل جزءا من محافظة النبطية. يمكن الوصول اليها عبر طريق بيروت-صيدا-النبطية-مرجعيون-كوكبا-حاصبيا.
عند مدخل البلدة، تنتصب على يمين الطريق ويساره مجموعة كبيرة من أشجار السنديان المعمرة التي تدلّت أغصانها واشتبكت أوراقها فشكّلت قنطرة طبيعية لحاصبيا اضافة الى قناطرها التاريخية…
حاصبيا عبر التاريخ:
دال الزمان على حاصبيا عبر تاريخها فعرفت أمماً وحضارات متعددة من الكنعانيين والفينيقيين الى العبرانيين ثم الآراميين والأشوريين والفرس واليونان، وبعدهم العرب والأنباط – وهؤلاء أعطوا النبطية إسمها – ثم الرومان والبيزنطيين الواضحة جلياً آثارهم في أقسام السرايا الشهابية.
وهنا لا بد من الإشارة الى أن الكاتب غالب سليقة يذكر في كتابه “تاريخ حاصبيا وما اليها” أن السيد المسيح لربما زار مع تلاميذه بلدة حاصبيا وقدّسها في أثناء تنقلاته التبشيرية ووصوله الى صيدا وصور وتعريجه على جبل التجلّي، جبل حرمون.
وقدم العرب الى وادي التيم، وقاعدته حاصبيا، التي ألحقها عمرو بن العاص، كما هي بسكانها على مختلف مشاربهم، بعدما انتزعها من البيزنطيين، إدارياً بمدينة دمشق.
ويُعتقد أن الصليبيين بقيادة الكونت ريمون دي سان جيل دخلوا حاصبيا في آذار العام 1099 قبل أن يتابعوا سيرهم الى القدس.
ويروي المؤرخ سليقة أنه سمع من بعض المشايخ الثقات أن حاصبيا كانت في البدء ديراً صغيراً مكان السرايا الشهابية وموقعه رأس البلدة، الأمر الذي يؤكد أن بعل جاد كان محل السرايا المذكورة.
حوّل الصليبيون حاصبيا الى بارونية تتبع صيدا إدارياً وقلعة الشقيف عسكرياً.
كانت حاصبيا ولما تزل قاعدة وادي التيم. ولما كان هذا الأخير مهد دعوة التوحيد الدرزية وقبلة دعاتها ومقر العديد من معاضديها ومناصريها، استقرّت هذه الدعوة بعد لأي في حاصبيا لتغدو قبلة أتباعها وكعبتهم.
إنتقال الأمراء الشهابيين الى حاصبيا:
كانت العلاقة بين الأمراء الشهابيين والسلطان صلاح الدين الأيوبي علاقة ود وصداقة. ولما ساد النفور بين السلطان في مصر وسيده الملك نور الدين محمود زنكي وكان مركزه في دمشق، خاف الشهابيون وقرّروا النزوح الى مصر. ولما وقف الملك على حقيقة قرارهم وعدهم بمنزلة عالية عنده، فعدلوا عن الرحيل وجاؤوا الى أرض وادي التيم حيث استقروا في بيداء الظهر الأحمر، في حين كان القسم الجنوبي من الوادي يتبع بارونية حاصبيا الصليبية.
توجّس الصليبيون خيفة وخشوا سوء العاقبة فهرعوا الى استقدام الرجال وجلب العتاد حتى حشدوا زهاء 50 ألف مقاتل، وكان الشهابيون بدورهم يستعدّون للقتال. والتقى الطرفان في سهل الخان حيث دارت رحى معارك حامية الوطيس دارت فيها الدوائر على الصليبيين، وتمكّن الشهابيون بعد عدة أيام من القتال الشرس من دخول حاصبيا واحتلال قلعتها وطرد فلول الصليبيين. ولما علم السلطان صلاح الدين الأيوبي، الذي تسلّم الحكم في دمشق، بالنصر الساحق، خلع على الأمير منقذ الشهابي العطايا السنيّة وولاّه على حاصبيا وجوارها الى ما شاء الله.
سوق الخان:
في منطقة حاصبيا، وتحديدا عند مجرى نهر الحاصباني، يقام صبيحة كل ثلاثاء أسبوعيا، سوق الخان الشعبي الذي يعدّ من أقدم الأسواق الشعبية في لبنان. وقد أتت تسميته سوق الخان نسبة الى الخان الشهابي الذي يقع بمحاذاته.
وتشكّل الاسواق الشعبية في منطقة وادي التيم متنفسا للأهالي الذين يجدون فيها ما يخفف عن كاهلهم وزر تكاثر النفقات اليومية، كما أن زبائن هذه الأسواق في ازدياد مستمر ويحلو للبعض تسميتها “سوبر ماركت الفقراء”.
نتابع جولتنا في البلدة الجميلة حاصبيا… هنا سوق حاصبيا الذي يقع في وسط المدينة ويشكّل مجمعا مميزا للمباني المزينة بالقناطر المزخرفة والأبواب والنوافذ الخشبية العتيقة. وفي وسط هذا السوق الأثري هناك بعض العيون والينابيع التي لا تنضب صيفا شتاء…


اضافة الى زراعة الزيتون والصناعة الحرفية، تعد تربية النحل من القطاعات الانتاجية المهمة في حاصبيا وهي مهنة متوارثة يعتاش منها العديد من العائلات. ويوجد في حاصبيا أكثر من 1400 قفير نحل تنتج سنويا حوالي عشرين طنا من العسل الصافي.
القلعة الشهابية:
زيارة حاصبيا لا تكتمل الا بالحديث عن القلعة الشهابية. هذه القلعة التي أعطت للمنطقة شهرتها وهي ملك للأمراء الشهابيين وتشكّل الجزء الرئيسي من المجمّع الشهابي الذي يضم مجموعة من المباني المحيطة بساحة مركزية غير معبّدة يبلغ طولها 150 مترا وعرضها مئة متر. وفي هذا المحمع الذي يغطي مساحة 20 ألف متر مربع، بيوت من القرون الوسطى ومسجد.
خطَّ وادي التيم في تاريخ لبنان القديم والحديث سطوراً من ذهب ما تزال السرايا الشهابية، أو القصر الشهابي، أو القلعة الشهابية تنتصب شاهدة في قاعدته حاصبيا.
كما اختلف القوم حول تسميتها كذلك المراجع حول تاريخها. فالغموض يلفّ ماضيها الأقدم. لربما كانت حصناً بناه العرب، أو معبداً شيّده الرومان. بيد أن آثاراً رومانية تعتّت على الزمان فاحتلت المكان لترتفع عليها القلعة الحالية التي بناها الصليبيون من دون الطبقة العلوية الثالثة، وحصّنوها تحصيناً عسكرياً منيعاً تدلّ عليه النوافذ المشقوقة لرمي السهام والنبال، والكوّات المخصّصة لإطلاق الزيت الحار أو القذائف على العدو. كانت تتبع بارونية صيدا الصليبية إدارياً وقلعة الشقيف عسكرياً. وثمة من يروي أن القلعة اشتهرت على عهد الصليبيين كدير يفزع اليه رهبان مكاناً للتعبّد حيث ما تزال “المحابس” تشير الى ما كانت تستقطبه من الرهبان القادمين الى الشرق.
أنقذها الأمير منقذ الشهابي من براثن آخر قائد إفرنجي عليها الكونت أورا دي بوربون بعد معركة طاحنة في سهل سوق الخان وزيتون المخاضة العام 1173.
يتألف المبنى من ثلاثة طوابق فوق الأرض وثلاثة تحتها. ولما كانت قد شُيّدت على مراحل وتعرّضت لأضرار كثيرة عرفت بعدها إما ترميماً أو إعادة بناء، فإن هذه البنية المنبسطة باتت تجمع فنون الهندسة والتقنيات المعمارية وأساليب الترميم. فمن السهل مثلاً تحديد الفن المعماري الصليبي، وبعض التفاصيل التي تعود الى القرون الوسطى. أما الطابق العلوي الثالث فقد بناه الشهابيون لذا تكثر فيه القناطر والنوافذ العربية الطراز، والقاعات الفسيحة المزيّنة جدرانها بالرسوم والرخام المستورد والآيات القرآنية، ووسطها بنوافير المياه.
يراوح ارتفاع جدران القصر من الخارج بين 12 و16 متراً، ويبلغ محيطه نحو 220 متراً. أما مساحة الباحة الداخلية فطولها 50 متراً وعرضها 20 متراً.
وبعد أن أغلقت الهيئة العامة اللبنانية للآثار الطبقات الثلاث التي تحت الأرض، احتفظت القلعة بتاريخها الغامض الخاص بها. ففيها دفن الصليبيون أمواتهم وفي أبراجها حجزوا أسراهم. واستخدمت الطبقات السفلية لتخزين المياه والمؤن ولإيواء الحيوانات.
حاصبيا… قطعة جميلة من لبنان… ارض معطاء… أناس طيبون… طبيعة خضراء… تاريخ قديم وتراث عريق… تلك حكاية حلوة من وطننا الأخضر…