جبال الحديقة السوداء ..!

 

بِقَلَم ألعَميد مُنْذِر ألأيوبي *

بقعة جغرافية بمساحة 4800 km2 يقطنها حوالي 150.000 نسمة يمثل الارمن الارثوذكس غالبيتهم الساحقة ..! تاريخيآ هي تدفع أولآ ثمن تموضعها الجغرافي كنقطة التقاء و مساحة نزاع بين امبراطوريات ثلاث الروسية ، العثمانية ، الفارسية و ثانيآ بِما تختزنه مِن ثروات طبيعية و نفطية أنها اقليم Nagorno-Karabakh “جبال الحديقة السوداء” و هو معنى اسمها باللغة الروسية..!
هي أيضآ مَسرَح الصراع الجيوسياسي الحالي بين دولتي أرمينيا و أذربيجان الذي تعود جذوره الى عشرينيات القرن الماضي عندما الحق الاتحاد السوفياتي المنطقة ذات الاغلبية الارمنية بأذربيجان تقربآ مِن تركيا – أتاتورك في حينها ؛ و إثْرَ انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1992 تمكنت ارمينيا مِن بسط سيطرتها عَلى الاقليم بعد صدام عسكري ادى الى الحاق الهزيمة بجيش اذربيجان و منذ ذلك الوقت تعتبر “باكو” العاصمة ألآذرية ان قضيتها الاستراتيجية استعادة و تحرير الاقليم بعد اجبار الجيش الارمني عَلى الانسحاب منه .. استمر النزاع الحدودي خلال العقود الماضية بين مد و جزر في ظل مساندة معلنة مِن تركيا لاذربيجان و دعم مقابل مِن ايران و روسيا ل “يريفان” عاصمة ارمينيا ..! التوازي بَقيت موسكو “شرطي القوقاز” ممسكةً بخيوط اللعبة كابحةً جماح النزاع كي لا يتحول الى صدام عسكري مباشر تضطر للانخراط فيه وِفقآ لمصالحها و امنها القومي ..!
و مِن المؤكد ان قضية “ناغورنو كاراباخ” بصرف النظر عن انضمام او انسلاخ الاقليم إلى أو عن الوطن ألأم ذات ابعاد جيو سياسية و اقتصادية متعددة فدولة آذربيجان غنية بمصادر الطاقة مِن “الغاز الطبيعي” و المعادن الثمينة كما تشكل مع الاقليم المتنازع عليه منطقة ممرات هامة جدآ وعقدة مواصلات لا يمكن تفاديها سواء بين بحر قزوين و البحر الاسود أم عبر القدرة عَلى تعطيل طريق الحرير الشمالي احد المحاور الرئيسية لتجارة الصين كما تملك امكانية السيطرة عَلى أنابيب الغاز و شرايين الطاقة الممتدة بين دول الاقليم القوقازي كخط الانابيب الذي يربط اذربيجان بتركيا اضافة الى خط السيل الشمالي North Stream الروسي الذي يغذي شمال اوروبا و المانيا تحديدآ ، أيضآ لديها سلطة التأثير عَلى خطوط الطاقة المستقبلية كمر الزامي لعبورها أراضيها لا سيَما الانبوب الذي سيمتد مِن روسيا الى سواحل المتوسط عَبرَ العراق و سوريا ..!


السؤال : ما هي المستجدات الطارئة التي ادت الى اشتعال الجبهة بعد ركود ؟؟
ما يمكن استقراءه ان خارطة الاقليم الشرق اوسطي و المتوسط الشرقي و دول شمالي افريقيا اضافة الى الخليج العربي و المضائق عَلى حافة متغيرات هائلة حاصلة عَلى انقاض النظام الاقليمي العربي
و هي تحت مبضع التشريح امام الرباعي العدو الاسرائيلي ، ايران ، تركيا أما روسيا فمقعدها عَلى رأس الطاولة تدير اللعبة في العمق الاستراتيجي ألآسيوي رغم المطبات و العقبات التي تحاول الولايات المتحدة الاميركية زرعها في وجهها سواء مباشرة او عَبرَ وكلائها .. استطرادآ ؛ يسعى الرباعي الاقليمي الى تأمين مصالحه الاستراتيجية مع ضمان امنه القومي سواءً عَلى البارد مِن خلال تفاهمات مزدوجة أحيانآ او بالاجماع أم عَلى صفيح ساخن عَبرَ الدول الدائرة في فلك اي من اطرافه بِما يؤدي الغايات المفترضة و الاهداف المنشودة مع تفادي الانجراف الى المواجهة المباشرة ..!

مِن جهة اخرى ، ترتبط اذربيجان بعلاقات وثيقة بالكيان العدو فَهي خاصرة رخوة تهدد الاستقرار الايراني الداخلي حيث الوجود الاستخباراتي الاسرائيلي في حالة نشطة و بيئة مريحة و متعاونة؟ اضافة الى انه أحَد ادوات اطباق الحصار الاقتصادي عَلى طهران ، كما ان هذا التواجد يزعج موسكو بالرغم مِن مظاهر الود المعلنة مع تل ابيب و التي تغلف عدائية مضمرة ؛ توازيآ فأن ما يثير حفيظة الاستخبارات الروسية التعاون الوثيق بين جهازي المخابرات التركية و ألآذرية هذا ما كشف عنه مؤخرآ الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف و في كلمته أثناء استقبال السفير اليوناني “نيكولاوس بايبيريغوس” أُعلِن “إننا نقف بجانب تركيا في جميع القضايا بما في ذلك مسألة الاستخبارات في شرق البحر المتوسط يمكننيأن أخبرك، وليس سرا، أن تركيا دولة شقيقة و نحن ندعمها تحت أي ظرف من الظروف”..!
عَلى صعيد آخر ، تلعب تركيا دورآ اساسيآ في تأجيج الصراع بعد ألتحول الواضح في استراتيجيتها
التي رسم خطوطها الرئيس التركي رجب طيب اردوغان منذ سنوات فَهي مِن خلال تمددها الجيوسياسي و العسكري تستعيد دورها الاقليمي العثماني-الطوراني الوازن كما ان تدخلها في النزاع الارمني-الاذري حول الاقليم يضمن تقدمآ نوعيآ و دورآ محوريآ يسمح لها بالمساومة عَلى قطع البازل شريكآ مضاربآ في النزاع مع قبرص و اليونان أو حليفآ عسكريآ لأحد الافرقاء في بؤر الاشتعال “ليبيا – سوريا – العراق”.. كما ان مِن نتائجه الهامة تعزيز نفوذها عامل تحسين شروط مزدوج لمكاسبها سواءً مع موسكو ام مع واشنطن إذ يتعذر عَلى الاخيرة تحقيق هدفها بتطويق روسيا و منعها مِن التحكم بمصادر الطاقة في اوروبا و بالتالي رفع دخلها القومي الى مستوى غير مسبوق (ذخيرة رفاه شعبها و تقدمها الصناعي التكنولوجي و العسكري) دون التعاون مع انقرة و آذربيجان و جورجيا ..
ميدانيآ ؛ إن النجاح في خلق منطقة متوترة عسكريآ في الحديقة الخلفية لروسيا و ايران لا يعني حربآ مفتوحة إذ ستبقى قَواعد الاشتباك المعتمدة ثابتة و مَسرَح العمليات ضمن هامش الخط الحدودي و ان بعمق متفاوت ضمن سيناريو استعراض القوة مع الاشعال التجريبي لفوهات الاسلحة المستخدمة كما ان نقل المقاتلين المرتزقة السوريين عَبرَ تركيا الى خط الجبهة الآذري يقع ضمن هامش “الارباح الجانبية” Collateral Profits و ذلك بالتخلص مِن كلا الطرفين المتواجهين حيث تشارك فصائل كردية في القتال الى جانب الجيش الارمني .. تاليآ ان المناورات و التدريبات العسكرية المشتركة التركية – الآذرية التي اجريت خلال شهر تموز الماضي و استمرت لعدة اسابيع ترافقت مع مشاركة عدة وحدات مِن الجيش التركي تم خلالها نقل كميات ضخمة مِن الاسلحة و الذخائر المتنوعة منها منظومات دفاع صاروخية و وسائط الحرب الالكترونية و الطائرات المسيرة قد ابقيت بتصرف الجيش ألآذري ..!

بِالمقابل و بصرف النظر عن نهجها الاستراتيجي السياسي الحيادي المتبع المبني على علاقات جيدة متوازنة مع اميركا ، دول اوروبا و حلف الناتو و ايضآ دول الجوار و مع حرصها في الحفاظ عَلى دورها و حجمها الجيوسياسي و تحالفها الثابت مع انقرة و بالرغم من احقية قضيتها في استعادة اقليم “ناغورنو كاراباخ” تراقب القيادة ألآذرية و تتعامل بكثير مِن الحذر مع الاندفاعة التركية لدعمها عسكريآ في هذه المرحلة تلافيآ لاية خطوة غير محسوبة قد تؤدي بها الى عواقب الغرق في مستنقع الصراع الاقليمي و رُبما الى حرب اهلية داخلية و هذا ما لا ترغب به موسكو .. في نفس السياق ؛ مِن البديهي ان ترصد وكالة المخابرات العسكرية الخارجية الروسية GRU حراك عملاء الموساد و مشاركة خبراء عسكريين في آذربيجان كما تضع رجال “خاقان فيدان” رئيس جهاز المخابرات الوطني التركي MIT تحت المراقبة اللصيقة و ان ضمن عنوان التنسيق المتبادل .. ما توفر ليس بخفي اذ العمل المعلن جارٍ لانشاء معسكرات لفصائل المرتزقة التابعة لتركيا في الاراضي الآذربيجانية و كذلك التخطيط لتأسيس قاعدة عسكرية رئيسية تركية في منطقة (ناختشيفان) بالقرب مِن الحدود مع ارمينيا و هذا ما لَن تسمح به موسكو مبدئيآ و لا تريد “باكو” التورط به ..
خِتامَآ ؛ رغم قصور دور المنظمة الدولية للامم المتحدة عن تنفيذ مقرراتها فيما خَصَ أزمة الاقليم و مرور اكثر مِن ثلاثون عامآ عَليها فإن لا مناص مِن العودة الى القرارات الاربع لمجلس الامن الدولي ذات الصلة و تنفيذها من قبل كلا الجانبين أرمينيا و آذربيجان مع فتح قنوات الحوار عَلى مستوى رفيع برعاية موسكو .. إن ما يطرحه الجانب الأذربيجاني حول انسحاب الجنود الأرمن من المناطق المحتلة لبدء الحوار بالتوازي مع منح اقليم “قره باغ” سلطة الحكم الذاتي مقارنةً مع مطلب أرمينيا بجعل الإقليم جمهورية مستقلة فرضيتان يمكن مقاربتهما للوصول الى نقطة وسط تنهي الصراع و تحقن الدماء إن صفت النوايا ..

بيروت في 04.10.2020
*كاتب و باحِث في الشؤون الامنية و الاستراتيجية.