(انهيار وطن 6) الأحزاب السياسية ودورها في الانهيار…

(هنا الحلقة السادسة، من سلسلة مقالات بعنوان انهيار وطن يكتبها الدكتور غسان الخالد وينشرها في “الدنيا نيوز”، وهذه الحلقة تتناول دور الاحزاب السياسية التاريخية في سقوط المنظومة)…

بقلم : د غسان الخالد *

استكمالا للبحث في الأحزاب السياسية ودورها في الانهيار سوف اتحدث الان عن الأحزاب المتلاشية، ومن ثم انتقل للحديث عن حزبين أساسيين في لبنان شكلا في مرحلة سابقة، مركز استقطاب للعروبين بشكل عام من كل الطوائف، لكن سرعان ما بدأ دورهما بالانحسار لأسباب كثيرة سوف احاول الإضاءة عليها في سياق الكلام عنهما، عنيت بذلك الحزب الشيوعي اللبناني، والحزب التقدمي الاشتراكي.
اولا :الأحزاب المتلاشية
أود الإشارة اولا إلى أن فكرة البحث عن هذه الأحزاب كانت بفعل ملاحظة أبداها الدكتور محمد نديم الجسر عن احد هذه الأحزاب وهو الحزب الديمقراطي الذي تأسس في ستينيات القرن الماضي. وبعد البحث أود أن أقول إني مدين بما ساكتبه عن هذه الأحزاب إلى ما كتبه صبحي امهز في جريدة المدن الإلكترونية في ١٣ نيسان ٢٠١٧.
ثمة خمسة أحزاب يغلب على معظمها الطابع الطائفي نشأت ثم تلاشت اما بحل نفسها أو بذوبانها في أحزاب أخرى. وحتى اكون أكثر انصافا فإن المذهبية هي التي طغت على غالبية هذه الأحزاب أو الحركات، وبعضها كان ذات طابع عسكري بحت. ومن هذه هذه الحركات أو التنظيمات أو الأحزاب، مع تجاوز المصطلح اذكر
١-حركة التنظيم: لقد اعتبرت هذه الحركة أولى التشكيلات المسيحية المسلحة، وتعود بدايات تأسيسها إلى العام ١٩٦٨ تحت شعار التصدي للخطر الفلسطيني كما يقول أحد مؤسسيها وهو عماد زوين. لنلاحظ أن هذا التاريخ سبق النزاع المسلح بين الجيش اللبناني والمنظمات الفلسطينية بقليل، كما سبق اتفاق القاهرة أيضا بقليل من الوقت. وهذا التنظيم هو عسكري أكثر من اعتباره تنظيما سياسيا أو حزبا سياسيا، وقد شكل لاحقا جزءاً من تنظيم سري سمي حركة الأرز. لاحقا وبعد اندلاع الحرب الأهلية توزع اعضاء هذا التنظيم على الأحزاب المسيحية التقليدية، اي الكتائب والأحرار، ثم انضموا إلى القوات اللبنانية، ليعودوا ويشكلوا حركة الأنصار التي دعمت العماد عون في العام ١٩٨٩ والعام ١٩٨٩،وتطوع عدد كبير منهم في الجيش اللبناني، وهكذا حلوا أنفسهم بطريقة سلسة من خلال الوظيفة في الجيش.
٢-حركة فتيان علي المرخصة من وزارة الداخلية واستطاعت أن تستقطب بضع مئات من الشباب الشيعي بقيادة أحمد صفوان. لم ينضم أعضاؤها إلى أفواج المقاومة اللبنانية، وسرعان ما انهارت الحركة بعد سقوط النبعة التي شكلت المركز الرئيس لها.
٣-قوات ناصر: يشي الاسم بأن المنتمين لهذا التنظيم هم من مؤيدي الرئيس عبد الناصر. وقد تأسست قبل الحرب الأهلية بعام واحد اي في العام ١٩٧٤،بعيد اغتيال معروف سعد. شارك التنظيم في معظم معارك الحرب الاهلية،لكن سرعان ما دب الخلاف بين أبرز اثنين من قياداته هما عصام العرب وحسن قبيسي. وقد نتج الخلاف عن التوجه الفكري والدعم الذي رآه عصام العرب من خلال دولتين عربيتين هما العراق وليبيا، في حين كان توجه قبيسي، أن التحالف مع الأنظمة ليس أساسيا، وهو مع أي دعم عربي معياره البعد القومي. وقد استطاع قبيسي بعد فوزه بالأمانة العامة للتنظيم أن يبعد عصام العرب من خلال طرده من التنظيم. تحول التنظيم لاحقا إلى مقاومة الاحتلال الصهيوني تحت اسم (العامليون)، في ثمانينات القرن الماضي. وبعد خروج عرفات من لبنان، ويبدو أنه كان الممول الرئيس للتنظيم، وبعد تقلص التمويل توقفت الحركة عن العمل كليا.
٤-منظمة الاشتراكيين الثوريين:مؤسسها مرشد شبو، وكانت مدعومة من منظمة فتح جناح ابو نضال. هي أقرب فكريا إلى الماوية، شاركت في الحرب الأهلية وحلت نفسها في العام ١٩٨٩.
٥-الحزب الديمقراطي: ظهر الحزب الديمقراطي قبل سنوات من الحرب الأهلية، وكان في لجنته المركزية عابرا للطوائف. نادى الحزب بالعلمنة والديمقراطية، كما كان من واضعي مسودة قانون الأحوال الشخصية. يعتبر جوزف مغيزل المؤسس، وضم مكتبه السياسي مجموعة من الأسماء منها لور مغيزل وحنا ذكور وباسم الجسر وغيرهم. وباسم الجسر هو كما يقول عنه الدكتور محمد نديم الجسر، صحفي وله عدة مؤلفات، وهو ابن الشيخ محمد الجسر الذي شغل منصب رئيس مجلس النواب في فترة الانتداب، كان مقربا من الرئيس فؤاد شهاب، وكان يترجم أفكار شهاب باللغة الفرنسية إلى العربية، او كان يصيغها باللغة العربية على حد تعبير الدكتور الجسر. ترشح عن دائرة بيروت الثانية ولم يفلح في الوصول إلى المجلس النيابي. والبعض يعتبر أن تركيبة هذا الحزب هي تركيبة شهابية انتخابية بثوب مغري. حل الحزب نفسه بعد مداهمة مكتبه في بدارو خلال الحرب الأهلية.
يمكن أن نلاحظ أن التنظيمات المذكورة كانت وليدة ظرف زماني معين، ونعمت بدعم مالي من جهات معينة لتحقيق أهداف خاصة ، وقد انتهت جميعها بشكل أو بآخر بسبب انتفاء دورها ووظيفتها التي نشأت على أساسها. أما الحزب الديمقراطي فقد كان اساسا غير عنفي، ومع اندلاع العنف والحرب الأهلية آثر أعضاؤه على حل الحزب، خصوصا مع تنامي الخطاب الطائفي خلال الحرب.
الحزب الشيوعي اللبناني:
أود أن أقول أيضا ههنا اني مدين بما ساقوله لما كتبه اسعد ابو خليل في صحيفة الأخبار بتاريخ ٢٦ كانون الثاني ٢٠١٩ من خلال مراجعته لكتاب جورج البطل: انا الشيوعي الوحيد خصوصا لجهة النقد الذاتي الذي يؤشر إلى خلل في تركيبة الحزب، وفي توجهاته، وفي ممارسته السياسية التي أوصلت الحزب إلى ما هو عليه الآن والذي يؤشر إلى تراجعه بشكل كبير عن دوره المفروض، إضافة إلى انقسامه إلى محاور داخل قيادته.
لقد لعب الحزب دورا كبيرا على الساحة اللبنانية، خلال مرحلة عمله السلبي أو الإيجابي. وكان جزءا مهما وفعالا من الحركة الوطنية نضاليا على المستوى السياسي وعسكريا خلال الحرب الأهلية، كما كحزب اساسي وفصيل مهم من فصائل المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني لأجزاء من لبنان بما فيها بيروت. ولا يستطيع أحد ما أن ينكر دور الحزب في المقاومة الوطنية وقد قدم العديد من الشهداء. لكن السؤال الأبرز هو لماذا تراجع دور الحزب على الساحة السياسية اللبنانية إلى هذا المستوى؟.
بعيدا عن العقلية التآمرية، يبدو أن خللاً ما داخل بنية الحزب السلطوية كان يتنامى ويكبر من حيث لا ندري، وربما من حيث لا يدري قادته. فبعد انتقال الأمانة العامة للحزب من جورج حاوي إلى خلفه، بدأ صراع المحاور داخل الحزب. وبعد اغتيال الحريري انشق اليأس عطا الله وأسس حركة اليسار الديمقراطي، وقبله شاهدنا استراحات طويلة لقيادات عليا في الحزب. لا شك أن الحزب طمع في الوصول إلى السلطة في لبنان بعد الطائف لكنه لم يفلح لأسباب عديدة، ربما بعض هذه الأسباب غير مسؤول عنها كحزب. لكن المؤكد أن الخلاف بين قياداته قد أخذت تطفو على السطح كما يقال،وهي ذات جذور نشأوية.
يقول جورج البطل في كتابه أن الحزب الشيوعي اللبناني هو حزب ليبرالي إصلاحي، وهذه الصفة ليست مذمة بقدر ما هي تصنيف لشعارات ورهانات وأولويات الحزب في مراحله المختلفة. وخلافا لما هو متوقع فإن الحزب الشيوعي اللبناني قد هادن النظام اللبناني، وخصوصاً في المرحلة الشهابية،مع العلم ان فرج الله الحلو كان قد كتب في صوت الشعب عام ١٩٤٤،بخصوص النظام أن الحزب يناضل من أجل توطيده ونجاحه.
ليست مهادنة النظام اللبناني الخلل البنيوي الوحيد الذي لوحظ، فثمة مشكلة أكبر وتنم عن خلل بنيوي أكبر أيضا. إنها الطائفية، وفي هذا الإطار يمكن العودة إلى ما ذكره جورج حداد الذي تعرض للطرد عام ١٩٦٤،اذ يقول:”فلما علم صوايا صوايا بأنني عينت شيعيا أبدى اعتراضه، واستياء كثيراً، واتحفني بتلك العبارة:يا رفيق اكلونا الشيعة”.
لقد عارض الحزب الحسينيات واعتبروها بدعة إيرانية. ولعل الأبرز في يمكن قوله على الصعيد الفكري أن الحزب لم يقم بقراءة ماركسية للبرجوازية اللبنانية. هكذا يتضح أن الحزب ومن تاريخ نشأته قد زرع لنفسه بذور الانهيار، ومن ثم توالت انكفاءات الحزب شيئآ فشيئاً، وخسر قيادات اعتبرت تاريخية ولها رمزيتها، لكن لا أحد كان يعلم مدى الخلاف الفكري داخل قيادته ولا أحدا يمكنه أن يتصور أن تصل الأمور في التفكير إلى هذا الحد وهو اي الحزب المعروف عنه بعلمانيته.
الحزب التقدمي الاشتراكي :
هو حزب كان له الدور الأبرز في ما سمي اصطلاحا بالحركة الوطنية اللبنانية في مواجهة اليمين اللبناني. كان لزعيمه كمال جنبلاط صاحب الشخصية الكاريزماتيكية الدور الأبرز في قيادة الحركة الوطنية. كمال جنبلاط، المفكر والسياسي حاول جاهدا أن يتوسع الحزب في الجغرافيا اللبنانية، نجح إلى حد ما من غير أن يشكل خرقا مهما على هذا الصعيد. شكل مع الراحل ياسر عرفات ثنائيا، وتحت جناحيهما انضوت معظم أحزاب الحركة الوطنية. وما بين الطموح والغرور أحيانآ، وقع كمال جنبلاط أسير كون سلطته لا تتعدى ولن تتعدى الجبل لتسود الجغرافية اللبنانية بشكل فعال. تحالفه مع عرفات خلال الحرب الأهلية، اعطته دفعا وإنشاء، وربما رغبة كان يتوقعها في نصر على اليمين اللبناني، فرفض التدخل السوري المطلوب لبنانيا، والمتوافق عليه إقليمياً ودولياً. هكذا انتهى من غير أن يحقق حلمه في الانتشار الجغرافي الا بنسبة ضئيلة تكاد لا تشكل أرضية صالحة للذكر. ومع خلفه انحسر دور الحزب أكثر فأكثر عن الجغرافية اللبنانية رغم أن الحزب لم يغب عن المشاركة السياسية في السلطة التشريعية كما في السلطة التنفيذية وخصوصا بعد الطائف.
لقد شارك الحزب كفريق حرب، وشارك زعيمه وليد جنبلاط كأمير من أمراء الحرب الذين تحالفوا مع البرجوازية الحريرية، وهو لا ينفي ذلك بكل تداعيات المشاركة وفسادها. لكن الأبرز في موضوع الحزب هو انكفاؤه بشكل بارز عن الساحة اللبنانية بعد أن تركه الكثيرون من المؤيدين وخصوصاً السنة والتحقوا بالركب الحريري،ومعه عاد الحزب إلى أحضان الجبل ليتقوقع في شرنقته المذهبية أكثر فأكثر، ويبتعد في مواقفه السياسية عن كل ما هو وطني، ويدخل في المصالح الضيقة لطائفته، شأنه في ذلك شأن كل الأحزاب السياسية التي شاركت في الحرب ودخلت السلطة من هذا الباب.
لقد أدت الخيارات السياسية الخاطئة للسلف والخلف في كثير من الأحيان إلى مواقف كادت أن تشعل حروبا في مكان ما وفي لحظة ما على الرغم من أن الحزب كان مشاركا في مجموعة الاشتراكية الدولية. وفي شتى الأحوال، فإن الحزب هو عائلي بإمتياز شأنه شأن الأحزاب السياسية العائلية الأخرى، ولأنه كذلك، لم يستطع تجاوز حدود جغرافيته إلى الجغرافية الأوسع الا في الإطار الضيق الذي أشرت إليه. وها هو الآن يعيش حالة من إعادة الصراع اليزبكي الجنبلاطي من خلال التمثيل في الوزارة كما في النيابة، مع العلم ان كلاهما يعرف كيف يحافظ على مصالح الطائفة عند الضرورة. باختصار أن حزبا يقوم على العائلة والطائفة أو المذهب لا يمكن أن يستمر الا في هذا المجال. وهو ما يفقده الدور التغييري المفترض أن يؤديه. وبالتالي عندما يتوقع الحزب داخل الشرنقة الطائفية، ويستمر في المراوحة مكانه، يكون قد رسم خطة انهياره. وبشكل عام فإن معظم أو غالبية الأحزاب السياسية اللبنانية، وقعت في هذا المنزلق، وانهيارها هو بداية لانهيار كيان.

———————-

باحث في علم الاجتماع السياسي