انهيار وطن (8) الوجود المسيحي في لبنان لا يحتمل التقسيم

 

بقلم د.غسان الخالد*

يعتبر الوجود المسيحي في الشرق عامة، وخصوصا في كل من العراق والأردن وسوريا ولبنان وفلسطين، كما وجود الأقباط في مصر، وجودا تاريخياً له مدلولاته وله معانيه وقيمه.

ومنذ فترة بعيدة ظهرت ما تسمى بالمشرقية، وكان يقصد بها دوما الوجود المسيحي في هذه الدول، لما يبدو أنه كان يشكل قلقا وجوديا ومصيريا، او ربما، لما يعتقد أن مشكلة وجودية تعاني منها المسيحية في الشرق. وهنا بالذات أعني أن المسألة قد تكون مفتعلة، او يراد لها أن تكون.
منذ الدعوة الإسلامية لم تظهر أية عقبات توحي بوجود مشكلة، فالمسيحيون صنفوا في القرآن الكريم بأنهم أهل كتاب، وعوملوا في الدولتين الأموية والعباسية على هذا الاساس. ويذكر مؤلف كتاب تعدد الأديان وأنظمة الحكم، أنه لم يعرف التاريخ تدخلا سلطويا في الشأن المسيحي، في الدولتين، وبقي المسيحيون يمارسون شعائرهم الدينية بحرية تامة. ويذهب المؤلف إلى أبعد من ذلك، إذ يقول ان بعضا من المسيحيين قد استقوى على البعض الآخر سلطويا، من غير أن يفضي هذا الاستقواء إلى تدخل مباشر من السلطة في الشأن المسيحي.
طبعا فإن الدكتور جورج قرم مؤلف الكتاب قامة علمية، ويمكن القول إن نظام القطاعية الذي فرضته الدولة العثمانية في وقت من الأوقات منح المسيحيين ما يشبه الاستقلال الذاتي، لولا التدخل الدولي في هذه المسألة الذي بدأ يظهر مع ضعف الدولة المركزية، خصوصاً في جبل لبنان، ويبدو أن الدولة القومية التي نتجت عن سايكس بيكو، قد زادت من منسوب وعي المسألة، وخصوصا أيضاً وأيضاً في لبنان تحديداً.؛ فما هي العوامل المساعدة على تشكل هذا الوعي، وما هي ضروراته ومعطياته، وما هي العوامل المساعدة على تشكل هذا القلق الوجودي؟.
الوجود المسيحي في الشرق
قد ذكرت الدول التي يتواجد فيها المسيحيون، وقد شارك المسيحيون في هذه الدول في السلطة أكان ذلك في المجالس التشريعية ام في السلطة التنفيذية. وقد ظهر منهم رجالات على مستوى الدولة والمواطنة قل نظيرهم. ولست هنا في معرض الكلام الإنشائي، ويمكن للقارئ ومن خلال التفتيش السهل معرفة هذه الأسماء، وتاريخها، وفكرها، كما يمكن التأكد من القامات الفكرية التي لمعت في عالم الفكر، كاليازجيين، والبساتنة، من غير أن ننسى بالطبع المفكر الكبير أنطون سعادة، صاحب نشوء الأمم، والحزب الذي أسسه والمعروف بالحزب السوري القومي الاجتماعي المنتشر بصورة خاصة في بالد الشام، كما في بلاد الاغتراب المتحدرين من هذه الدول.
أود أن أذكر هنا انه وقبل الإعلان عن دولة لبنان الكبير، كان ثمة محاولة لتوسيع حدود هذا الكيان ليشمل ما يعرف بجبل النصارى، التابع لسوريا اليوم، وان احد القناصلة الفرنسيين، وبعد أن قدم اقتراحا بذلك عاد وتراجع عنه، لأن الكيان اللبناني الذي سوف ينشأ ستكون اغلبيته من الروم الأرثوذكس وليس من الموارنة الذين وعدوا بنشأة الكيان،ولذلك تم الغاء فكرة التوسع تلك.
الديموغرافيا المسيحية في الشرق.
يمكن لمن يرغب من القراء العودة إلى الكثير من الدراسات في هذا الشأن، ويمكنه الاعتماد أكثر على كتاب الدكتور شوقي عطيه، بعنوان ديموغرافيا المشرق الصادر عام ٢٠١٩ عن مركز المشرق للأبحاث والدراسات.
يرجح الدكتور شوقي عطيه انخفاض نسبة المسيحيين في كل من دول المشرق، ويحددها بسببين، الأول انخفاض نسبة الخصوبة عندهم، والتي لا تصل إلى نسبة الخمسين بالماية، يقابلها نسبة في معيار الهجرة والتي تصل إلى ضعف ما عند المسلمين.
تتفق معظم الدراسات على أن نسبة المسيحيين في سوريا هي بين ٥ ل ٧ بالمية وان تعدادهم العام يقارب المليونين لكن أغلبهم من الروم الأرثوذكس، ومقر بطركيتهم في دمشق. بالطبع فقد تأثرت هذه النسبة بعد الأحداث في سوريا حيث نزح الكثير إلى خارج سوريا، ويقدر عدد النازحين المسيحيين في سوريا بحوالي ٧٠٠ الف اي تقريبا بنسبة الثلث، لكن نزوحهم ليس عن الأراضي السورية بالمطلق، بل إن القسم الأكبر منهم قد نزح إلى مناطق أكثر أمنا، وخصوصا إلى ما يعرف بجبل النصارى التي تشرف على الكثير من البلدات ذات الانتماء المسيحي قلعة الحصن. وربما نقع على نسبة أيضا نزحت إلى لبنان من حمص ودمشق وريف حماه إلى لبنان، كما الأرمن من حلب.
اما في العراق فالموضوع مختلف تماماً حيث أن الهجرة أو النزوح المسيحي كان أحيانآ بالقوة، بفعل تواجد ما سمي بداعش، ومحاولة تطبيقها للفهم السطحي للنص القرآني، من غير أن نستبعد دور الدول الداعمة لها ولمصالحها، وخصوصاً دول الجوار، وصولا إلى القول مع الدكتور عطيه انه لا توجد محافظة عراقية لا تخلو من النازحين منها وإليها بما يمثل فرزا ديموغرافيا واضحاً.
قد لا ينطبق ما حصل في سوريا على ما حصل في العراق بالمطلق، لكن يمكن القول أن ما حصل في العراق شابه ما حدث في فلسطين حيث التهجير بالقوة، بفعل أيديولوجيا الدولة الصهيونية، التي توضحت آكثر فأكثر مع النية عن اعتبار إسرائيل دولة يهودية.
لعل هذا الإعلان هو ما شكل ويشكل عامل القلق الوجودي الأول، لأنه يعني إما قبولا أو نزوحا، وفي كلا الحالتين يمارس بالقوة والاضطهاد والقمع ليس بحق المسيحيين فقط، وإنما بحق كل القاطنين على هذه الأرض. ولعل ما عبرت عنه صفقة القرن يلامس لب المشكلة.
اما في لبنان فالأمر يبدو مختلفاً نوعاً ما. ثمة إحصاءات كثيرة غير رسمية لأن آخر إحصاء كان في العام ١٩٣٢، وهو ما يعتبر نقطة ضعف، في الدولة اللبنانية، إذ لا توجد دولة في العالم لا تجري إحصاء كل هذه الفترة. ولعل هذا الفعل مقصودا أيضا، ولذلك غالبا ما يركز الساسة اللبنانيون، على الوجود المعنوي والرمزي لا العددي فيما يتعلق بالمشاركة المسيحية في السلطة في لبنان. وهنا بيت القصيد.
تشير دراسة أعدتها الدولية للمعلومات أن نسبة المسيحيين كانت حوالى ٥٩ بالمية عند إجراء إحصاء العام ١٩٣٢، إلى أنها انخفضت عام ٢٠١٨ إلى ما نسبته ٣٠.٦ بالماية. أما دراسة رئيس قسم الرياضيات في الجامعة الأميركية عام ٢٠١٨ فتبدو أكثر تفاؤلاً إذ تقول الدراسة أن نسبة المسيحيين في لبنان بلغت عام ٢٠١١ ٣٤.٥ بالمية وسوف ترتفع إلى ٣٧.٥ بالمية عام ٢٠٣٠ وإلى ٣٩.٥ بالمية عام ٢٠٤٥. وهذا الارتفاع مرده إلى ارتفاع الخصوبة عند المسيحيين في لبنان. وهو ما لا يقر به أو ينقضه الدكتور شوقي في كتابه المشار إليه.
إذا كنا نتحدث بالوجود المسيحي على أساس العدد فإننا بالتأكيد سوف نصل إلى نظرة تشاؤمية، اما اذا أردنا الكلام عن الدور المسيحي في الشرق فالموضوع قد يختلف كثيرا. يورد أندريه قصاص في مقال له بتاريخ ١٧ ٢.٢٠٢١ بعضا من ما قاله البابا في لقائه اعضاء السلك الدبلوماسي حيث تمنى البابا أن يشهد لبنان التزاما سياسياً وطنياً ودولياً يساعد في تعزيز الاستقرار، وان يحافظ على الهوية المسيحية بغية ضمان شرق أوسط تعددي، متنوع وتسامح، وان يكون للمسيحيين فيه دورا تشاركيا لا أن ينظر إليهم على أنهم أقلية.
طبعا هناك إصرار على ضمان الهوية بعيدا عن مفهوم التعددية وفي إطار مفهوم التنوع الذي يلائم الوطنية أكثر كما يناسب المواطنة التي نفتقدها جميعا في لبنان، لأنه لم تتشكل الدولة حتى الآن بالمعنى المعروف من المفهوم. ولذلك يعتبر البابا أن لبنان هو رسالة أكثر منه بلدا عاديا ومن هنا يمكن القول وفق رأيه أن أضعاف المكون المسيحي من خلال التهميش يهدد التوازن الداخلي.
المعنى نفسه والمضمون ذاته يعبر عنه البابا تواضروس في مقابلة بتاريخ ١٣ أيار ٢٠١٩، حيث يعتبر أن المسيحية التي نشأت في الشرق، قد تعرضت لعملية تهجير، وان تفريغ الشرق من المسيحيين مسألة بغاية الخطورة.
طبعا الجميع لا يريد ذلك. الجميع يعترف بالتنوع، ويعترف أن الشرق لا يمكن أن يستمر شرقا وان يحافظ على شرقيته إن خلا من المسيحيين. لكن علينا أن نربط بين ما يخططه الغرب ويسعى إليه، وبين ما نريده نحن. فالغرب جهز سابقا السفن لإجلاء مسيحيي لبنان، والغرب تغاضى عن ممارسات داعش في العراق، كما عن ممارسات الفصائل المسلحة السورية المتشددة، وبالتالي فقد ساهم إلى حد ما بالتهجير أو النزوح لا حبا بالمسبحيين، بل بما يحقق مصالح الكيان الصهيوني والدولة اليهودية. وهنا أتساءل عن معنى المؤتمر الذي انعقد في سويسرا في العام ٢٠٠٤،قبل كل الأحداث التي شهدتها المنطقة، والذي تمحور حول إيجاد وطن يعتبر ملاذا آمنا لمسيحيي الشرق، حيث اعتبر لبنان المكان الأكثر ملاءمة لنشوء هذا الملاذ الآمن، او هذا الوطن،
وربما من هنا أيضآ يمكننا أن نتفهم مخاطر التوطين الذي يصر عليه الغرب ويخشاه اللبنانيون كل اللبنانيين. فالقرار الأممي ١٩٤،ينص على عودة الفلسطينين إلى أرضهم، هو من جملة قرارات أممية تتعلق بالقضية الفلسطينية التي لم تنفذ ولن تنفذ الا بالقوة طالما استمر الدعم الغربي غير المحدود لهذا الكيان.
أن قيام دول طائفية، او عرقية أو اثنية، او غير ذلك هو هدف للغرب الداعم للكيان كما هو هدف للكيان الصهيوني، إذ أن تقسيم المقسم، وأفتعال صراعات عبثية تحت أي شعار في دول المشرق لا يخدم الا الكيان الصهيوني والكيان الصهيوني فقط. وتبدو المسألة معقدة أكثر في لبنان، وأكثر مما قد يتصوره البعض من العاملين على المشاريع التفتيتية. ذلك أن الانتشار المسيحي من اقاصي عكار إلى اقاصي الجنوب، مرورا بالساحل والبقاع، لا يمكن تجاهله ولا يمكن إعادة توزيعه، مع ان مسيحيي المركز في لبنان لا يعطون الأهمية لمسيحيي الأطراف. لكن مسيحيي الأطراف لهم كلمتهم في هذا الشأن، وهم بتوزعهم على الجغرافيا اللبنانية، وبتنوع انتمائهم المذهبي، يبدو أنهم الأكثر تأثيراً في هذا المجال، ولهم ستكون كلمة الفصل.