الهدهد …ومكانته في الآداب العالمية

 

“الدنيا نيوز” – دانيا يوسف*

منذ أن راح الإنسان يسبغ دلالات رمزية على عناصر الطبيعة وعالَم الحيوان والنبات، حظي الهدهد بما لم ينله أي طائر آخر من الاهتمام.
فبالتاج الذي يعلو رأسه وقامته الممشوقة وألوان ريشه، يأسر الهدهد الأنظار. وإذا أضفنا إلى ذلك بعض طباعه وسلوكياته لأمكننا، ربما، تفسير المكانة المتفردة التي يحتلها في مملكة الطير.
إنه طائر برّي، يعيش منفرداً، ويهاجر لمسافات طويلة، وهذا ما يضفي عليه بعض الغموض. ولكنه أقرب الطيور البرّية إلى الإنسان، فيدنو منه ولكن بحذر مُبرَّر. ويألف المزارعون مشاهدته في حقولهم. ولعل ثنائية الأُلفة والغموض هذه، تفسر ما حمّله الإنسان للهدهد من رموز ودلالات ثقافية في كل المجتمعات التي عرفته، وبشكل خاص في الثقافات الشرقية.
الهدهد في الأدب العربي حيث الغلبة للشعر والشاعرية
بسبب جماله، وثنائية الغموض والألفة التي سبقت الإشارة إليها، كان من الطبيعي أن يفرض الهدهد نفسه مادة للشعر بالدرجة الأولى، وإن لم يغب عن النثر والرواية، حيث لم يخسر هذا الطائر طابعه وشخصيته الغنائية التي تُطلق المخيلة في كل اتجاه. ففي كتاب “الحيوان” للجاحظ مثلاً، نجده يقول عن الهدهد: “إن العرب والأعراب كانوا يزعمون – كما ذكرنا في المقدمة – أن القنزعة (التاج الريشي) التي على رأسه ثواب من الله تعالى على ما كان من بِرِّه لأمه عندما ماتت، حيث جعل قبرها على رأسه، فهذه القنزعة عوضاً عن تلك الوهدة”.
وفي الشعر العربي القديم، نجد الشاعر “أمية ابن أبي الصلت” (550-624م) يعبّر في قصيدته التي عُرفت بـ “قنزعة الهدهد” عن إعجابه بجمال صنع الخالق المتمثل في هذا العُرف الذي يتوج رأس الهدهد، معتبراً أن هذا التاج مكافأة على ما يعتقد العرب أنه بِرٌّ بوالديه، حيث يقول الشاعر:
تعلم بأن الله ليس كصنعه
صنيعٌ ولا يخفى على الله مُلحَدُ
غيم وظلماء وغيث سحابةٍ
أيــام كفَّنَ واسـترادَ الهدهد
يبغي القرار لأمه ليجنَّها
فبنى عليها في قفاه يمهدُ
مهداً وطيئاً فاستقل بحمله
في الطير يحملها ولا يتأوَّدُ
من أمه فجزي بصالح حملها
ولداً وكلف ظهره ما تفقِدُ
فيزال يدلح ما مضى بجنازة
منها وما اختلف الجديد المسندُ
ومن منظور مغاير للهدهد السليماني، يرى الشاعر عمارة اليمني (1121-1174م) الذي عاش في العصر الأندلسي أن الهدهد كان مؤشر بداية لنهاية حكم بلقيس ودولتها، وأنه هدم عرشها، فيقول في قصيدته التي جرت أبياتها مجرى الحكمة:
فقد هدَّ قدماً عرش بلقيس هدهد
وخرَّب فأر قبل ذا سد مأرب
وتلوّنت الوظائف والصفات التي حمّلها الشعراء للهدهد عبر التاريخ وصولاً إلى الشعر المعاصر، حيث نجد هذا الطائر رمزاً للمقاومة والحرية والأمل عند محمود درويش. فقد حمَّل الشاعر الهدهد كل آماله وأحلامه وتطلعاته إلى الحرية والعودة إلى أرضه الأم، ورأى فيه رسولاً أميناً في صدارة الطيور المحلقة على الدوام. ففي قصيدته “الهدهد” التي شبّعها بالرمزية التاريخية، وضمّنها حواراً بين الهدهد المرموز به للشاعر المحلّق في سماء وطنه بروحه فقط، والطيور التي تعبت من أسفارها ومنافيها والمرموز بها لشعب فلسطين، يقول درويش:
“لم نقترب من أرض نجمتنا البعيدة بعد.
تأخذنا القصيدة
من خُرم إبرتنا لنغزل للفضاء عباءة الأفق الجديدة.
أسرى، ولو قفزت سنابلُنا عن الأسوار وانبثق السنونو
من قيدنا المكسور، أسرى ما نحبُّ وما نريد وما نكون
لكن فينا هدهداً يملي على زيتونة المنفى بريده
وفي مقام آخر من القصيدة، يخرج الشاعر بالهدهد إلى فضاء الحوار الرحب بينه وبين باقي الطيور حول قضية الحرية والوطن:
وإلى متى سنطير ؟ قال الهدهدُ السكرانُ : غايتُنَا المدى
قلنا : وماذا خلْفَه ؟ قال المدى خلفَ المدى خلف المدى
قلنا : تعبنَا. قال: لن تجدوا صنوبرةً لترتاحُوا.
سدى، ما تطلبون من الهبوط، فحلّقوا لتُحَلِّقوا.
هُدْهُدٌ وألف نبأ
عنوان مجموعة شعرية للشاعر اليمني أسامة المحوري، تُعد باكورة أعماله. صدرت عن مؤسسة روائع للثقافة والفنون والنشر في القاهرة عام 2019م. وتضم المجموعة 33 قصيدة من الشعر العمودي، جعل الشاعر من الهدهد فيها عتبة نصية ومدخلاً لألف نبأ. لكن هذه الأنباء لم تكن مقرونة باليقين، بل محمولة على أجنحة الشعر والخيال.
هُدهُدٌ خارج نُبوءة المطر
مجموعة أخرى للشاعر الفلسطيني رشدي الماضي، صدرت في عام 2013م عن منشورات “مؤسسة الأفق للثقافة والفنون” في حيفا، وتضمَّنت 26 قصيدة.. ولعل أهم ما في عنوان هذا الإصدار هو الخروج عن سياق الظهور الموسمي للهدهد، الذي جاء في غير صيف وغير نبأ عن موعد المطر، لينجح الشاعر في أن يعيش حلماً ربيعياً، من خلال جعل الهدهد الذي جاء في غير نبوءة المطر مدخلاً يحتمل تعدد الأوجه الدلالية.
ما لم يأتِ به الهدهد
مجموعة شعرية تضم خمس عشرة قصيدة تفعيلية للشاعر المغربي الدكتور مولاي رشيد العلوي، صدرت عن مطبعة “وراقة بلال” بفاس، ضمن منشورات “منتدى الضاد للإبداع والتنمية” بالمغرب.
الإدريس والهدهد
مجموعة شعرية للشاعر العراقي عبدالمنعم حمندي، صدرت عن “دار ينابيع للنشر” في دمشق. تضم هذه المجموعة قصائد كتبت ما بين عامي 2013 و2016م. والإدريس معناه (المُكرِّس) وهو اسم نبي الله إدريس – عليه السلام -، وأوَّل من خطَّ بالقلم وسُمي بإدريس لغزارة علمه وكثرة دراسته. وقد جمع الشاعر بين الإدريس والهدهد لمكانة هذا الطائر الذي هدى قوم سبأ إلى عبادة الله تعالى مع سليمان – عليه السلام -، وجعل الشاعر من الإدريس رمزاً للعلم، والهدهد رمزاً للخلاص والنجاة من الشدائد والعذاب.
وفي الرواية
أن تكون الغلبة للشعر على الرواية في احتضان الهدهد وتحميله ما شاء الشعراء، فهذا لا يعني أنه غاب عن الرواية العربية الحديثة. ومن أقرب الأعمال إلينا في هذا المجال نذكر:
“تقرير الهدهد”
رواية للأديب البروفيسور حبيب عبدالرب سروري، صدرت عن دار الآداب في بيروت عام 2012م. تقع هذه الرواية في 400 صفحة من القطع المتوسط، وتدور أحداثها في أجواء وأزمنة وأمكنة افتراضية تجسر ما بين الماضي والحاضر زمناً، وبين الواقع والخيال مكاناً، وبين تعدُّد التراث الإنساني تناصاً. فقد جعل المؤلف من تقرير الهدهد عتبة نصية للرواية، في إشارة إلى خلاصة نبأ الهدهد اليقين الذي حمله من سبأ إلى سليمان – عليه السلام – بغية هداية القوم. ويجمع سروري في روايته هذه بين رموز العلم والمعرفة والفن من مختلف مناطق التاريخ الإنساني. ففي مكان افتراضي لا يخطر لأحد على بال، حيث السماء السابعة والسبعين، وفي مقهى صغير يُدعى “مقهى الكوكبة” يجمع المؤلف عظماء الأرض من آينشتاين وداروين إلى بيكاسو وابن رشد وأبو العلاء المعرّي.. جاعلاً من الأخير بطلاً لروايته التي تحوَّلت بفعل ثرائها إلى قاموس ناضح بالعلم والشّعر والحكمة والخيال الخصب البديع.
“تاج الهدهد”
عنوان رواية للروائي والصحافي المصري ناصر عراق، صدرت في عام 2012م، وتدور أحداثها في القاهرة حول قصة عاطفية تجمع المخرج الصحافي معتز مختار، المهووس بحب الطيور والحيوانات بزميلته. كما ترصد الرواية أجواء القاهرة قبل أحداث 25 يناير 2011م وعند بداياتها، حين وجد البطل وسط ميدان التحرير، يحار بين البكاء على هدهده الجريح، أو التحسر على حبيبته، أو الاستسلام لأوامر زميلته حنان التي أحبته بقوة وأنقذته من الموت.
الهدهد للمدح والقدح
من مفارقات مكانة الهدهد في الوجدان الشعبي، أنه استُخدم على ألسنة العامة للمدح تارة وللذم تارة أخرى. ففي مقام المدح، يُشبَّه الشخص حاد الذكاء وقوي البصر بالهدهد، فيقال: “أذكى من هدهد” أو “أبصر من هدهد”. أما في مقام القدح، فقد ربطت بعض الصور الشعبية بين حُسن مظهر الهدهد والرائحة الكريهة التي تفوح منه أحياناً، لإسقاط هذا التناقض على الشخص الذي يكون حسن المظهر أو جميل الحديث ويكون باطنه سيئاً سلوكاً ونوايا فيقال له: “مثل الهدهد، ظاهره نظيف، وباطنه جيف”.. أو يقال له: “أنتن من هُدْهُد”.. وقال شاعر أجرى المثل الشعبي في أبياته المبطنة بالبوح بخيبة الأمل تجاه مَن يُؤمل فيه أمراً حسناً فبدر منه ما يعكر الود:
تشاغلت عنا أبا الطيب
بغير شهيٍّ ولا طيّبِ
كأنتن من هدهد ميت
أُصيب فكُّفِن في جوربِ
في الآداب الغربية حضور شاحب
مقارنة بما حظي به الهدهد في الثقافات الشرقية، يفاجأ الباحث بشحوبة هذا الحضور في الآداب الغربية. وتفسير ذلك ليس صعباً. فباستثناء جنوب شبه الجزيرة الإيبيرية، لا يستوطن الهدهد أية بقعة في أوروبا، بل يعبرها عبوراً في هجراته السنوية. وخطوط هجرته لا تتجاوز في فرنسا على سبيل المثال المناطق الجنوبية من البلاد. أما في إنجلترا فتشير دراسات البيئيين إلى أن نحو 200 هدهد فقط يمرون بجنوب البلاد موسمياً. أما القارة الأمريكية فلا تعرف الهدهد بتاتاً.
إضافة إلى ذلك، من الملاحظ أن للثقافات وللشعوب ميولاً إلى اعتماد رموز محدَّدة وإبقائها خارج المنافسة. وتاريخياً، مال الأوروبيون إلى اعتماد الباز شعاراً وطنياً، من روسيا إلى فرنسا مروراً بالمجر والنمسا وألمانيا وغيرها… تماماً كما اعتمدت الهند الطاووس ملكاً على عالَم الطير ومادة ثقافية صدّرتها إلى الثقافات الآسيوية المجاورة. ومن المرجّح أنه لولا ورود الهدهد في القرآن الكريم كما أسلفنا سابقاً، لما تمكَّن هذا الطائر من استيقاف الثقافة والآداب العربية أمامه، ولخلا المجال لغيره من الطيور، كالصقر على الأرجح. ومع ذلك، يمكننا أن نجد بعض الشذرات الأدبية الغربية الحديثة، التي يحضر فيها الهدهد نتيجة اطلاع بعض الأدباء على الأساطير الإغريقية أو الآداب الشرقية.
فحتى في أمريكا، اقترن الروائي الأمريكي جون أبدايك بالهدهد في مؤلفه الذي يحمل عنوان “أمنية للهدهد”، وهو عبارة عن مجموعة شعرية نشرها عام 1959م، ويشير فيها إلى طائر الهدهد في إحدى قصائده لرمزيته في الثقافة الإغريقية. وقد عَدَّ أبدايك هذا الطائر رمزاً للحظ السعيد، لا سيما وأنه كتب لاحقاً عدة كتب لقيت كلها نجاحاً ورواجاً كبيرين.
كما يرد ذكر الهدهد في قصة “طائر المر والهدهد” للأخوين غريم التي يستخدمان فيها شخصية هذا الطائر للتأكيد على مفهوم الوسطية، والتحذير من مخاطر المبالغة في فعل الخير أو الشر على صاحبه. إذ يقوم الهدهد بخيار يحتم عليه أن يدفع ثمنه لاحقاً كما يتضح في نهاية الحكاية.
وحتى جَمَال الهدهد لم يغب عن بعض الأغلفة، فنراه يزيِّن غلاف رواية الكاتبة ليا كامينسكي “العظام المجوفة” وهي قصة تتحدث عن عالِم حيوان طموح يبحث عن الطيور الفريدة ويتصيدها في مناطقها الأم، فإلى جانب كون الهدهد رمزاً للتفرد والندرة، اختارته الكاتبة ليحتل غلاف روايتها فيشد اهتمام قرّاء لم يعرفوا الهداهد في بلادهم.


مديرة القسم الثقافي في موقع “الدنيا نيوز”.