النخبة النسائية في تونس تخوض معركة المساواة في الميراث

“أخبار الدنيا” – خاص

 

لطالما أثارت قضية التسوية في الميراث حفيظة رجال الدين والتيارات الإسلامية والمختصين في الشريعة الإسلامية والمشتغلين بالشأن الديني عموما، الأمر الذي أحدث خلافات فقهية فيما بينهم واتخذت مواقفهم صيغا متنوعة وردود أفعال متعددة ومتناقضة، ولطالما إختلف أيضا رجال السياسية حول إحداث قطيعة قانونية بنصوص وضعية مع نص قرآني معمول به حتى الآن.
ولكن بعيدا عن القضايا الفقهية والقانونية فمصادقة مجلس الوزراء التونسي على مشروع قانون المساواة في الإرث والمتعلق بإتمام مجلة الأحوال الشخصية لم يكن مفاجأة، فالمرأة التونسية ومنذ زمن الزعيم الحبيب بورقيبة تحصلت على حقوق غير مسبوقة مقارنة بنظيراتها في العالم العربي.
وانطلاقا من الدستور التونسي الضامن للحريات وحقوق الإنسان والمساواة الكاملة في الحقوق والواجبات بين الجنسين، نجح “التحالف التونسي من أجل المساواة في الميراث” وهو إئتلاف مكوَّن من 67 جمعية ومنظمة في الضغط لسن قانون يقرّ المساواة في الميراث.
وإن أثار مشروع قانون المساواة في الإرث ظهور نزاعات بين مدافع عن قضايا الهوية والخصوصية الثقافية ومن يتمسك بكونية حقوق الإنسان وشموليتها وإقرار المساواة بشكلها المطلق بين الجنسين، هل يصح القول بأن قضية التسوية في الإرث ثورة ثقافية نخبوية وأن هذا المطلب تجنب السقوط في الجدل الديني لمزيد تمكين المرأة التونسية؟ هذا هو سؤال الأسئلة الذي طرحته “الدنيا نيوز ” على سيدات يمثلن النخبة النسائية في تونس بامتياز …

الدكتورة آمال موسى المختصة في علم الاجتماع الديني والإسلام السياسي ترى أن مسألة المساواة في الميراث كانت ولازالت قائمة على مستندات دينية، الشيء الذي جعلها مسألة معقدة المعالجة منذ بداية الحكم البورقيبي حيث كانت حلما بورقيبيا فضل التريث فيه وتركه لتراكم الزمن وتغلغل مشروعه التحديثي في العقليات .
موضحة : “لقد نجح المجتمع المدني في تونس في إخراج هذه المسألة من خطاب المستندات الدينية القطعية الدلالة إلى الخطاب الخاص بقيم المواطنة، ويظهر ذلك في الاستناد على مصادقة دستور 2014 على المساواة بين الجنسين بما يفيد أن الجهد المدني طالب بتطبيق الدستور.
إنّ هذه النقطة من شأنها أن تُضعف كل المواقف الرافضة وتُصيبها بالصمت الاضطراري : فالأغلبية صادقت على البند الذي ينص على المساواة بين الجنسين بما في ذلك الإسلام السياسي، الذي ثمثله حركة النهضة التونسية وهو ما يعني أن مطلب المساواة في الميراث إنّما يندرج تحت قبة هذا البند ويستمد مشروعيته منه”.

وأكدت آمال موسى : “إن أهمية المصادقة على المساواة الكاملة بين الجنسين من البنود الثورية في دستور 2014 وهو البند الذي سيعبد الطريق لتذليل كل التّمايزات بين الجنسين مهما طال الوقت لأن الأرضية القانونية عُبدت وانتهى الأمر”.

                (الدكتورة امال موسى)

 

مشيرة إلى أن نجاح النخبة المدنية الحقوقيّة في التركيز على مسألة المواطنة وحقوقها وربطها بالمساواة بين الجنسين باعتبار أن المساواة بين المواطنين وعدم التمييز على أساس الدين أو العرق أو الجنس هي الفكرة الأم في فكر المواطنة.
وتتابع آمال موسى : “هذه الفكرة لا تقل قيمة ومنهجية عن الربط بالأول، وميزة هذا التنظيم الفكري المحكم لهذا المطلب الحق انه تجنب السقوط في الجدل الديني، ويمكن القول إن طرح مسألة المساواة بين الميراث اليوم قد اكتملت مختلف ركائزها : فالدولة مدنية كما ينص الدستور وتعتمد المرجعيات الحقوقية الإنسانية مثلما ورد في التوطئة.
كما إن المواطنة فكرة عبقرية : إنّها فكرة المساواة بين المواطنين ونبذ كل تمييز يقوم على أساس الدين أو العرق أو الجنس، لذلك فإن المواطنة تشكل امتحانا للدستور وللأغلبية التي صادقت على بنوده وكلّما كانت أكثر قدرة على التفاعل إيجابيا مع قيم المواطنة ومواجهة مشكلة التمايز التي تقتل فكرة المواطنة الرئيسة المتمثلة في المساواة، كانت ثقافتنا أكثر قدرة على إثبات كفاءتها في التغيير والحياة والديمقراطية والمواطنة والمساواة.
ومن المهم أن يواصل المجتمع المدني التحرك برصانة وثقة واعتماد خطاب هادئ ومقنع فالمستندات الموجودة اليوم توفر للمطالبين بتفعيل المساواة بين الجنسين من خلال المساواة في الميراث قوية ودستورية والمطلوب الاستقواء فقط بالدستور لا بخارجه وعدم الدخول في سجلات نحن في غنى عنها”.

وتقول ضيفتنا الدكتورة ألفة يوسف الكاتبة والمؤلفة والباحثة والأكاديمية المختصة في اللغة العربية واللسانيات : “نحيا في عصر غدا فيه الاتصال بين البشر من أيسر ما يكون، وتجسمت القيم المشتركة بين الناس حتى أصبح من العسير الحديث عن ثقافة مخصوصة وحضارة منغلقة، ومسألة حقوق الانسان والمساواة بين البشر جميعهم مهما يكن دينهم أو لونهم أو عرقهم غدت من البديهيات في جلّ الثقافات البشرية لا يُستثنى منها إلا ثقافة بعض الدول العربية الاسلامية التي تنظّر للامساواة وتنشد إيجاد تبرير للتمييز بين المواطنين”.

                     (الدكتورة الفة يوسف)

وتابعت ألفة يوسف : “أما عن مبادرة المساواة في الميراث بين الرجال والنساء في تونس، كان من المفترض أن تكون أمرا بديهيا في بلاد يؤكد دستورها على المساواة بين المواطنين مهما يكن جنسهم وعرقهم ودينهم، ولكنها أثارت جدالا واسعا وأقامت الدنيا ولَم تقعدها لا داخل تونس فقط، إنما خارجها حتى وجد الأزهر نفسه مضطرا لتشنيع هذه المبادرة بل إخراج أصحابها من الملة”.
مؤكدة : “والحق أنني ممن يؤمنون قطعا بأن المساواة عقلية بالأساس، فقانون تعدد الزوجات في تونس لم يمنع البعض من أن يحلم بالعودة الى عصر الحريم، والمصادقة على القانون الشامل لمناهضة العنف ضد المرأة في تونس وتقبله ضمن المخيال الشعبي الجماعي، إذن تغيير العقليات هام ولكنه لا يتم الا على المدى الطويل، ومن هنا تأتي أهمية القوانين بصفتها ساعية الى إثبات القيم العليا والتمكين من آلية تطبيقها في الواقع آنيا.
بل أني أتصور أن المساواة في الميراث هي جوهر مقاصد التشريع الديني، فالناس في الجاهلية ما كانوا يورثون المرأة ولا الصبي، وإقرار نصف نصيب الإبن للبنت كان زمنها ثورة تشريعية كبرى” .
وكشفت ألفة يوسف أن المسلمين الى الْيَوْمَ ، في تونس وسواها لا ينزعجون عندما تحرم البنت من نصيبها في الميراث وهذا شائع، ولكنهم يحتجون عندما يقيم القانون مساواة بين البنّت والابن، ربما لأنهم لم ينفذوا الى أن نصف النصيب الذي ذكره القران هو الحد الأدنى الذي لا ينفي المساواة، ولكنه ينفي بالضرورة حرمان البنت من الميراث على حد تفسيرها.
وختمت الدكتورة ألفة يوسف : “جميل أن ما يسمى “القانون الوضعي” سبيلا لحمل المسلمين على العودة الى جوهر الأديان من سلام ومحبة ومساواة ، فالأديان والقوانين ليست إلا سبلا، أما الجوهر المنشود فهو القيم والاخلاق ، ألم يقل الرسول صلي الله عليه وسلم “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” .

في ذات السياق كان لنا لقاء مع الروائية والإعلامية آمال مختار التي تؤكد من جانبها : “أن مسألة الإرث ليست هي القضية الخلافية الأولى التى تنجح تونس في مواجهتها بشجاعة مع قوى التشدد المتأصلة في المجتمع على اختلاف أشكالها، سواء منها الدينية أو الاجتماعية أو الثقافية بل لعلها القضية الأكثر تعقيدا في المجتمعات المسلمة باعتبارها تمس المجتمع من جانبين غاية في الحساسية وهما المرأة والملكية باعتبار أن هذه الأخيرة من شأنها أن تمنح المرأة نوعا من السلطة وقدرة على الاستقلالية إذا ما توفرت”.

             (الروائية آمال مختار)

مشيرة إلى : “أن المجتمعات المسلمة هي مجتمعات ذكورية العقلية بامتياز فإنها سعت وتسعى إلى أن تظل وضعية المرأة على ماهي عليه من ضعف واستباحة وانعدام قدرة على الاستقلالية المالية حتى تظل المرأة مجرد تابع للسلطة الذكورية في جميع الميادين”.

كما لا تختلف الروائية آمال مختار مع الدكتورة آمال موسى في الرأي في أن الوضع في تونس كان دائما مختلفا اختلافا كليا في كل ما يخص المرأة منذ أحداث مجلة الأحوال الشخصية مع الزعيم الحبيب بورڤيبة، بل إن الأمر يعود إلى ما قبل بورڤيبة مع مناضلات ومناضلون في هذا الشأن وعلى رأسهم الطاهر الحداد الذي واجه تخلف المجتمع في بداية القرن العشرين حيث بلغ حد الرفض الي درجة اتهامه بالتكفيىر بعد نشر كتابه “امرأتنا في الشريعة والمجتمع الذي ناقش فيه وضعية المرأة التي منحها الشرع الكثير مما حرمته الأعراف الاجتماعية.
وعن كيفية التعامل مع قضية المساواة في الإرث أوضحت الروائية آمال مختار : “أن بعض المجتمعات بعد كل هذه الثورات المختلفة شكلا ونوعا كأن الزمن توقف بها في ثلاثينات القرن الماضي، فهناك من لايزال يعامل المرأة على أنها شيء أو نصف كائن أو كائن عورة، أما حقوقها فهي نوع من الكفر .
وقمة هذا الكفر هو الخوض في المساواة في الميراث بين الذكر والأنثى باعتبارهما كائنيين متساوين في الإنسانية والنسب إلى نفس الأب الذي لا يقدر علي التفرقة بينهما من وجهة نظر عاطفية اولا ومن وجهة أخرى هي الوجهة الثقافية التي تجعل هذا الأب عادلا بحكم العقلية السائدة والتي فرضتها العولمة التي حولت العالم الي قرية، ومن الطبيعي جدا أن تخضع إلى نفس القوانين التي تحكم البشر أينما كانوا على وجه الأرض، غير أن الإنسان وخاصة العربي المسلم فإنه يرفض قبول الأمور بكليتها بل يحلو له انتقاء ما يناسبه ويناسب مصالحه ويلقي في سلة القمامة ما يعارض مصلحته، وعندئذ يستند إلى الكتاب الديني قانون الشرع ليستغل قداسة ذلك لدى القلوب العمياء ويفرض ما يناسب مصلحته باسم الدين، والدين من ذلك براء لأن الله عادل بين خلقه نساء كانوا أم رجالا فإنه لن يظلم أيا منهما بالتأكيد”.
وبينت المختار أن تونس كانت وستظل سباقة في الدفاع عن حقوق المرأة التونسية المسلمة، فقد نجحت أخيرا وبعد خوض نقاش اجتماعي طويل عريض على مدى سنوات بين مثقفيها وعلمائها في الفقه الإسلامي مع الإرادة السياسية النيرة في سن قانون المساواة في الإرث بين الأخ والأخت مع ترك فسحة من الحرية لمن يتشدد ويرفض تطبيق هذا القانون من وجهة نظره الخاصة والتي تعنيه وحده وهذا دليل آخر على مدى الحرية التي ينعم بها التونسيون في تونس الحرة المتفتحة على العالم والمواكبة.