القُدسُ اين صلاح الدين..؟

بِقَلَم العميد مُنذِر الأيوبي*

منذ بداية شهر رمضان المبارك وقوات الاحتلال الاسرائيلي ترفع من وتيرة استفزازاتها واعتداءاتها على الفلسطينيين والمقدسيين بصورة خاصة. اذ فرضت منع المصلين من ممارسة شعائرهم الدينية والتجمعات والفعاليات الرمضانية وسط المدينة المقدسة، كما عمدت الى اقتحام مئذنتي المغاربة وباب السلسلة في المسجد الأقصى بعد اقفال الحرم ونصب سواتر حديدية لعزل محيط الباحات الخارجية وبصورة خاصة مدرج باب العامود (أحد أبواب البلدة القديمة)، وصولآ الى اقتحام عناصر الشرطة قاعات المسجد بعد اصرار وتمكن العديد من المصلين من الدخول، كما اعتقلت العشرات عنوة وتعسفآ .
اندلعت المواجهات مع قوات الاحتلال بعد محاولتها اخراج سكان منطقة الشيخ جراح من منازلهم عنوة لتهويد القدس نهائيآ، بالتوازي مع بناء 250 وحدة سكنية ضمن الخطة الاستيطانية الشاملة
و بالتالي ازالة القضية من الذاكرة الفلسطينية للاجيال الحالية والقادمة. الحي السكني او البلدة مقدسية-فلسطينية تقع في الجانب الشرقي من محافظة القدس التي سقطت تحت نير الاحتلال خلال حرب عام 1967؛ تاريخيآ دعيت المنطقة باسم الشيخ جراح نسبة الى الامير حسام الدين الجراحي طبيب السلطان صلاح الدين الايوبي القائد الكردي المسلم ومحرر القدس والاصقاع العربية من الحملات الصليبية الاستعمارية، وتحول الى رمز لأجيال مقدسية على مدى 900 عام.

تاليآ، تصاعدت اعتداءات قوات الاحتلال، لا سيما مع خروج المصلين عبر باب العامود ومن احياء المصرارة، باب الساهرة، وشارع المطران في القدس المحتلة، تحت ضربات العصي على ظهور المواطنين ووجوههم، مترافقة مع قنابل الغاز المسيل للدموع والقنابل الصوتية والرصاص المطاطي، فسقط المئات جرحى والعشرات بحال الخطر .. ووفق خطة موضوعة مسبقآ من وزارة داخلية العدو لمواجهة التحركات السلمية خلال الشهر الفضيل بالعنف المعتاد؛ اوعز وزير الشؤون الداخلية للكيان “أرييه درعي” لقائد الشرطة الاسرائيلية المفوض “كابي شبطاي” بزج وحدة النخبة في شرطة الحدود “يمام” العالية التدريب في المواجهات، “الوحدة التي سبق ونفذت العديد من عمليات الاغتيال لقيادات فلسطينية مقاومة”، ثم تم دعمها بوحدة النخبة الثانية “الياماس”.
بالتزامن وبتنسيق مع جهاز المخابرات “الموساد” حشدت قوات الامن وحرضت مئات المستوطنين المنتمين لحركة “لاهافا” المتطرفة للاشتباك مع المعتصمين الفلسطينيين وتحطيم ممتلكاتهم ومتاجرهم وسياراتهم، لا سيما في الاحياء التي يقطنها عرب فلسطين 1948 وحي التلة الفرنسية وسط القدس، مسبغة على سلوك قواتها الوحشي كذبآ صفة فض الاشتباك بين مستوطنين اسرائيليين ومتظاهرين فلسطينيين..!
نتيجة اعمال العنف المتواصلة تدحرجت الامور نحو مواجهة عسكرية، بعد قرار جريء غير مسبوق من المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة بالتدخل حماية للقدس واهلها، فوجئت شعبة الاستخبارات العسكرية “أمان” وفرعها المكلف الحفاظ على الامن الداخلي “الشاباك” بالقرار المبادرة وكذلك اركان قيادة جيش العدو لا سيما قادة الالوية البرية. وصعق اطقم المظلة الدفاعية “القبة الحديدية” The Iron Dome التي منيت بفشل ذريع برر بخلل فني في انظمتها برز في ردها الغير متناسب مع “المطر الصاروخي” Missile Rain الذي اعتمدته المقاومة. وفي حين تكفل سلاح الجو بتنفيذ غاراته الهمجية على المباني السكنية والاهداف المدنية كانت قيادة سلاح البحرية تشدد الحصار على القطاع بعد تعزيز سفن الدورية ب سبعة قطع حربية من طراز “شالداج دفورا 3” او (درع النحل) Bee Shield المتطورة.
من جهة اخرى؛ باتت استراتيجية المقاومة مبنية على عقيدة الرد على كل اعتداء في ارض فلسطين، ومن حافزية الدم النازف والارتكابات الهمجية سجل للمرة الاولى توحد المقاومة الفلسطينية بأذرعها حركة حماس، الجهاد الاسلامي، الوية صلاح الدين بوجه جيش الاحتلال. بالمقابل سجل ارتباك مشهود ولعدة ايام في مكاتب وزارة الدفاع لا سيما هيئة الطواريء، حيث لجأت غرفة العمليات المشتركة الى الموافقة على لائحة اهداف عشوائية لقصفها جوآ وبالمدفعية الثقيلة..
ادت المعارك العسكرية وعشرات الضربات الجوية على القطاع الى استشهاد المئات من الفلسطينيين وتدمير متواصل ومنهجي للبنية التحتية والمباني السكنية. ومن تحت الانقاض وبين الركام الخانق برزت اشارة النصر من يد احد المصابين خلال انقاذه سرت كالنار في الهشيم سواء على وسائل التواصل الاجتماعي او شاشات التلفزة، مؤشر هام على الايمان بعمق وقناعة وصدق المقاومة ترجم بانفضاض معظم الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات عن سلطة رام الله، بينما كانت اعلام دولة فلسطين تلوح بيد المتظاهرين في معظم عواصم العالم..
اسئلة كثيرة تطرح ليس اقلها هل تتحول المواجهات الى حرب مفتوحة واسعة النطاق.؟ من الواضح بعد مرور حوالي اسبوعين على بدء المعركة ما يلي:
ان رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو يبحث عن بارقة انتصار متعذرة يأمل من خلالها اعادة تكليفه تشكيل الحكومة الجديدة بصفته الرجل الحازم والقوي بعد اقصاءه نتيجة فشله وتكليف (يائير ليبيد) بالمهمة. في حين كانت المقاومة بأدائها تعيد الى القضية الفلسطينية استمراريتها والقها بمواجهة السعي لانهائها سواء بالعدوان العسكري، السياسي (التطبيع) او الديموغرافي (التهجير والاستيطان).

ان القيادة العسكرية الاسرائيلية ترفض التسليم بقواعد الاشتباك الجديدة التي ستفرضها المقاومة نتيجة صمودها وقدرتها النسبية على تأسيس مرحلة (توازن الردع).
ان استمرارية القصف الجوي الهمجي وحجم الدمار الحاصل واعداد الشهداء والجرحى لن يفكك الجبهة الداخلية بين الشعب الفلسطيني ومقاومته لا بل سيزيد الامور لحمة وتماسكآ عكس رهان العدو.
ان اغتيال قيادات المقاومة كنائب القائد العام لكتائب عزالدين القسام او تصفية كادراتها العليا لن يحبط المقاومة او يؤدي الى زيادة الضغط النفسي، كما ان استهداف بنيتها التحتية وانفاق مخازن الصواريخ امر ليس من السهولة بمكان. إذ اثبتت المقاومة في الداخل انها بلغت مرحلة الرشد في احترافيتها ونهجها الغير استعراضي واعتمادها الصمت المطبق وممارستها نظريات وقواعد الحرب السليمة الموضعية Position War مع مواءمتها بين اكتساب الخبرات وتطوير القدرات.
ان قيادة العدو امتلكت حسابات خاطئة عن جهوزية المقاومة ونوعية اسلحتها في “عمى استخباراتي” Intelligence Blindness مريع، سيكون له ارتداداته مستقبلآ.
ان تأخير الاستجابة لمطالب الدول المؤثرة وامين عام الامم المتحدة بوقف اطلاق النار تمهيدآ لحل
مرحلي، والتهديد بشن حرب برية تضمن تحقيق الاهداف التي اعلنها نتنياهو المختصرة بانهاء حالة المقاومة رهان خاسر.
ان العقل السياسي للنخبة الصهيونية مقتنع باستحالة تحقيق نتنياهو للاهداف التي وضعها لانهاء الحرب وقد ترجمت هذه القناعة على ما يبدو بمنحه مهلة حتى يوم السبت القادم لوقفها. وان عليه الاذعان لمصلحة اسرائيل لا لمصلحته الشخصية من خلال النظر بعيدآ والموازنة بين الاستراتيجية والتموضع الجيوسياسي. فاستمرار العدوان سيراكم الخسائر، اذ قد يدفع شعوب دول الطوق او غيرها الى تحركات عفوية لاسقاط سلطاتها او قياداتها التي سبق ووقعت اتفاقيات السلام (مصر: كامب دايفيد- الاردن: وادي عربة) الخ او لالغاء عمليات التطبيع الجارية بما يعتبر تهديدآ للأمن القومي الاسرائيلي.
ان القضايا المطروحة على مستوى الاقليم كثيرة، والمخاوف والمحاذير كبيرة، لذا فان التهدئة والهدنة ستفرض نفسها وربما برعاية مصرية-اوروبية للتقليل من حجم التداعيات، وعلى هذا الاساس تحاول قيادة المقاومة فرض شروطها من خلال اية تسوية، ليس اقلها انهاء حالة الحصار على قطاع غزة ووقف عملية تهويد القدس الشرقية مما يعني نجاحها في فرض حزام الحماية السياسي بمواجهة حزام الحصار العسكري للقطاع.

ختامآ؛ يوم سالت الدماء في باحات الحرم القدسي؛ تعالت اصوات المآذن تسأل اين صلاح الدين.؟
فالقدس يريدون ذلها و المسجد الاقصى تدنيسه. واذ كان السؤال من منطلق الوعي التاريخي والوجدان الفلسطيني.. اتى الجواب باسم صلاح الدين تجدونني في انفاس كل مقاوم وروح كل شهيد، في تنهيدة كل امرأة ورجل، في صراخ كل طفل وحراك كل جنين يلد..!
هي عملية “سيف القدس” تنفذها المقاومة في كل حجر يرجم وكل رصاصة تطلق وصاروخ يرشق.!
لطالما طال البكاء يوم كانت العيون تقاوم المخرز واليوم المخرز يواجه المخرز..!. وتبقى القدس وقف الله على الارض وايقونة الانسانية..!

بيروت في 20.05.2021
*كاتب وباحث في الشؤون الامنية والاستراتيجية