العظماء فقط… يغيرون أفكارهم

 

بقلم : توفيق شومان*

ليس لبنان أول دولة تنهار ماليا واقتصاديا ، لا في التاريخ الماضي والبعيد ، ولا في القرن العشرين ولا في القرن الواحد والعشرين .
عشرات الدول هوت إلى قاع الإنهيار والإفلاس في المائة سنة الأخيرة بفعل الفساد أو الحروب مع الخارج أو صراعات الداخل ، وفي قائمة الإنهيار 85 دولة ، منها الولايات المتحدة في عام 1929وألمانيا (مرتان) بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية ، واليابان وبريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية ، والصين في الستينيات والسبعينيات، وروسيا في عام 1998 ، والأرجنتين في عام 2001 ، وايسلندة في عام 2008 ، وقبرص في عام 2013 واليونان في عام 2015 .
كل هذه الدول تعافت بعد أعوام معدودات او تماثلت إلى الإستشفاء بعد سنوات ، والسؤال الذي يختصر أسئلة التعافي والتشافي : كيف خرجت هذه الدول من أمراض الإنهيار ؟.
في اليابان ، امتحن الإمبراطور هيروهيتو(1901 ـ 1989) عقله ، واستقر على قناعة بعد هزيمة بلاده في الحرب الثانية ، بأنه ليس من ” سلالة الآلهة ” وما يحوزه من مُلك مطلق وعلو مقام وجلال ليس إرثا متوارثا من ” جدته آلهة الشمس ” ، كما كانت تُجهر وتُفصح ديانة ” الشنتو”، وحين استبدل هيروهيتو أفكاره ونظر في مرآة نفسه فرآها بشرا سويا .
حين غير امبراطور اليابان أفكاره وصار بشرا سويا غدا اليابانيون شعبا، وحين غدا اليابانيون شعبا باتت اليابان أنشودة الزمان .
في ألمانيا وبحسب ما يقوله تقريرمنشور على موقع التلفزيون الألماني ( 14ـ 4ـ2014 ) : ” يرغب الكثير من الأطفال في ألمانيا معرفة صلة والديهم أو جديهم بحقبة النازية إذ يحيرهم سؤال مهم وهو: هل كان جدي وجدتي من جناة النازية أم من ضحايا النازية ؟ ، و هذا السؤال يؤشر إلى خروج العقل الألماني بعد الحرب العالمية الثانية من العقل النازي قبل الحرب ، وهو الأمر الذي مهد إلى سبيله كونراد أديناور(1876ـ1967) أول مستشار لألمانيا الغربية في مرحلة ما بعد النازية .
مستشار ألمانيا غير أفكاره فتغيرت أفكار الألمان ، وها هي ألمانيا نجمة الحضارة الحديثة وإحدى أهم دول العالم علما وصناعة وتقدما .
من اليابان و ألمانيا إلى الصين :
في الحقبة الشيوعية الماوية ، لم يكن لدى الصينيين ما يأكلونه ، وللحفاظ على الجنس الصيني أصدر الحاكم بأمره ” الرفيق ” ماوتسي تونغ (1893ـ1976 ) قرارا بقتل العصافير حتى لا تأكل الحبوب والمزورعات ، فيُضاف إلى ملايين الصينيين الموتى بالجوع ملايين أخرى ، ولما رحل ماو تسي تونغ ، خلفه هوا جيو فينج ( 1921 ـ 2008 ) فاحتمل صوابية الوقوف في منتصف الطريق بين الشيوعية ـ الماوية والتغيير ، ولما كان من المستحيل والمحال إخراج الصين من مآسي الماوية ومهالك المجاعة بتغيير نصف الأفكار ، برز إلى الواجهة عبقري عظيم اسمه دينج شياو بينج (1904ـ1997) عام 1979، فأزاح هوا جيو فينج وأحاله على التقاعد، وأكمل انقلاب النصف الثاني من الأفكار وقال : القرن الواحد والعشرون هو قرن الصين ، وهكذا كان .
من قال إن الإنسان لا يغير أفكاره مثلما يغير ملابسه ؟
تصدأ الأفكار مثلما تعتق الملابس ، وهكذا فعلت اليابان وألمانيا والصين .
ما جرى في روسيا يناظر ما جرى في الصين، فبعد انهيار الإتحاد السوفياتي في آوائل التسعينيات من القرن الفائت ، تسلطت عصابات المال والسلاح والمخدرات واللصوص على رؤوس الروس ، وباتت دولة مثل الشيشان تتحدى دولة مثل روسيا ، وما أن حل عام 1998 حتى أعلنت روسيا إفلاسها ، وحين وصل رجل فذ وعبقري وخلاق اسمه فلاديمير بوتين إلى رأس السلطة في عام 1999 استلم جثة اسمها روسيا ولكنه قال : من يريد إعادة الشيوعية و الإتحاد السوفياتي ليس عنده عقل .
هي الأفكار الجديدة التي أعادت إحياء روسيا بعدما كانت رميما
خلع فلاديمير بوتين الأفكارالشيوعية القديمة ولم يستعبده ماضيه .
قد يقال تلك دول كبرى ، ولكن هذا مثال آخر من دولة ايسلندة الصغيرة و الواقعة في أقصى شمالي المحيط الأطلسي :
في آواخرعام 2008 انفجرت في ايسلندة ” ثورة القرع على الطناجر” جراء الأزمة المالية العالمية التي تفشت آنذاك ، فاستقالت الحكومة اليمينية وجاءت بديلتها حكومة يسارية جريئة وجادة ، فأممت المصارف ، وألقت الفاسدين والفاجرين في السجون ، ولم تعمل الحكومة على إلقاء تبعة الإنهيار على عامة الشعب ، بل أسقطت ديون الرهن العقاري ، وتعقبت المتورطين فصادرت منهم ما تسنى لها وتيسر ومن دون الذهاب إلى صناديق المال الدولية ، وخلال سنوات ثلاث تم تصنيف ايسلندة دولة مستقرة ماليا واجتماعيا ،عادت بعدها أحزاب اليمين لتحكم وتدير البلاد .
في مثال أيسلندة ذهبت حكومة يمينية طالحة وجاءت حكومة يسارية صالحة ، ولتعقبها حكومة يمينية ناجحة .
خلاصة التجربة الأيسلندية أنها شرعت آليات العقل على التفكير بأسباب لجوء الناس إلى اليسار عند الشدائد وانزياحهم إلى اليمين بعد زوال المصاعب ، فبرزت مقولة مضمونها أن اليسار ينجح في إدارة الدول حين تصيبها كوارث او حين تشتعل بالحروب ، وبمعنى آخر ان حكومات اليسار هي حكومات طوارىء ناجحة او حكومات انتقالية صالحة لتقطع مع مرحلة وتمهد إلى اخرى .
مقولة قابلة للتأمل
مقولة ناتجة عن عقل ينتج أفكارا .
هذا مثال آخرمن قبرص جارة لبنان وقريبته في التاريخ والبحر :
قبل سبعة أعوام، وبالتحديد في عام 2013، انزلقت قبرص إلى الإنهيار المالي وأعلنت إفلاسها ، وأصاب القبارصة ما أصاب اللبنانيين من قيود على السحوبات المالية ومثيلاتها المرة ، وإثر مفاوضات عسيرة مع الإتحاد الأوروبي قررت الحكومة القبرصية إعادة هيكلة المصارف ودمجها ، وفرضت سياسة الإقتطاع الصارم على الحسابات المالية التي تتعدى 100 ألف يورو ، فيما الحسابات دون هذا الرقم بقيت في مأمن وأمان ، وفي غضون ثلاث سنوات خرجت قبرص من نفق الإنهيار وظلماته .
تلك أمثلة من اليابان و الصين وروسيا ، ومن ألمانيا و ايسلندة ، ومن اليونان وقبرص : من لديه في لبنان من أهل السياسة شجاعة القول : أول التغيير تغيير التفكير؟
من يتقمص دور هيروهيتو الياباني او أديناورالألماني او دينج شياو بينج الصيني أو فلاديمير بوتين الروسي او يسار ايسلندة او يمين قبرص ؟.
من يبدأ أول الحكاية ؟ من ينطق أول الكلام ؟ من يرمي أفكاره القديمة كما يرمي ملابسه العتيقة ؟
من هو العبقري ؟ من هو العظيم في لبنان ؟
عشتم وعاش لبنان .

—————

*كاتب واعلامي ومحلل سياسي