الصدى وصوره المتنوعة في الشعر والأدب

“الدنيا نيوز” – دانيا يوسف*

لكل شاعر “صداه” الخاص في واحدة من قصائده، يقول أمير شعراء النبط محمد بن لعبون المتوفي في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي:
“أسأل الصدى: يا للعجب هل لهم تالي؟
قال الصدى: يا للعجب هل لهم تالي؟”
وبعده بنحو قرن ونصف القرن، كتب الشاعر العراقي بدر شاكر السيّاب قصيدة “أنشودة المطر”، وجاء في أحد مقاطعها:
“أصيح بالخليج يا خليج
يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى
فيرجع الصدى كأنه النشيج:
يا خليج يا واهب المحار والردى”
اندلع نقاش بين النقَّاد حول أسبقية ابن لعبون في إبداع هذه الصورة الشعرية التي تبدو لوهلة هي نفسها عند الشاعرين. فمنهم من رأى أن السيّاب استوحى بشكل واضح ما قاله سلفه، ومنهم من نفى. وكان لكل من الطرفين حججه المختلفة. ما يهمنا هنا هو ما يتبدى من اختلاف في مفهوم الصدى عند الشاعرين. فعلى الرغم من أن ابن لعبون أنسن الصدى بفعل “قال”، فإنه أبقاه على وظيفته الحقيقية، ألا وهي الترداد الدقيق للصوت. أما السياب، فقد حذف من جواب الصدى اللؤلؤ الذي هو رمز للخير والثروة، وأبقى على المحار والردى، للدلالة على الخواء والموت، وكأن الصدى بالنسبة إليه هو شخص محاور، يفكر قبل أن يجيب عن الصوت، ولا يكتفي بترداده. هذا التلوّن في التطلع إلى الصدى هو السمة البارزة في تعامل الشعراء معه، حتى ليمكن القول إن لكل شاعر قديم أو حديث، مفهومه الخاص للصدى، أو أن الصدى مادة طيّعة يمكن للشاعر أن يقولبها كما يشاء وفق مقتضيات استخدامه.
ففي فخره بنفسه، يقول المتنبي في قصيدته “لكل امرىءٍ من دهره ما تعودا” التي يمتدح بها سيف الدولة الحمداني:
“وما الدهرُ إِلّا مِن رُواة قصائدي
إِذا قلت شِعراً أَصبح الدهر مُنشداً
وَدَع كلّ صوت غير صوتي فإنني
أَنا الصائح المحكي والآخرُ الصَدى”
فالصدى عند المتنبي مقياس للقيمة. إذ إن قيمة الأصل تعلو عادة على قيمة ما يُشتقّ عنه، تماماً كما أن قيمة القول تعلو على قيمة ترداده. وتستمر صور الصدى في التقلب وصولاً إلى الشعر المعاصر، ليصبح في قصيدة لعبدالله البردوني مرادفاً للتجاوب المطلق، والتجرد من القدرة على التغيير أو المعاكسة، إذ يقول:
“من ذا يناديني؟ أحسّ نداء
يعتادني فيحيلني أصداء
فأشد أنفاسي وأعراقي إلى فمه
وأغزل من شذاه رداء”.
عنوان قصيدة البردوني هذه هو “صدى”، وهو أيضاً عنوان قصيدة لمحمود درويش يقول فيها:
“في الصدى بئر
وفي البئر صدى
وأنا أبحث ما بينهما
عن مصدر الصوت سدى!”
وفي هذا يصبح الصدى رمزاً للمجهول، وحافزاً للبحث عن حقيقة هذا المجهول، وكأن الأصل قد ضاع أو لم يعد موجوداً. وفي نثر درويش هناك حضور لافت للصدى أيضاً، يقول عنه في نصه “في حضرة الغياب”:
“الوداع هو الصمت الفاصل بين الصوت والصدى. أما الصوت فقد انكسر. وأما الصدى فقد حفظته وديان وكهوف مرهفة السمع كآذان كونية، ضخمته صدى للصدى. الصدى وصية الزائر للعابر، وقيافة الطائر للطائر، وإلحاح النهاية على إطالة الحكاية..الصدى هو نقش الاسم في الهواء”.
وبصورة الصدى كإلحاح على إطالة الحكاية، نقترب من أكثر مفاهيم الصدى شيوعاً عند الأدباء، ألا وهو استرجاع الماضي أو فصلاً منه. مفهوم عبّر عنه بصورة لا تقبل التأويل الشاعر أحمد شوقي في قصيدته “يا جارة الوادي”، حيث يخاطب مدينة زحلة اللبنانية بالقول:
“يا جارة الوادي طربت وعادني
ما يشبه الأحلام من ذكراكِ
مثلت في الذكرى هواك وفي الكرى
والذكريات صدى السنين الحاكي”
واستخدام الصدى كرمز لما يعفّ عنه الزمن ويحيله إلى ذكرى باهتة يحيلنا إلى عالم الأدب والرواية. كتب لا تُقرأ من العنوان بسبب ما يتسم به من قدرة على تحريك الخيال، كان الصدى ولا يزال عزيزاً على قلوب الأدباء، يُسبغون عليه مفاهيم وصور شتى، ويطوّعونه وفق أمزجتهم أداةً للتعبير تختصر فكرة أو أفكاراً تحتاج إلى مفردات كثيرة للتعبير عنها. وهكذا قفز الصدى إلى عناوين ما لا يُحصى من المؤلفات الأدبية.
في ذاكرة أي منّا أعمال أدبية وروائية دخل “الصدى” في عناوينها للدلالة على شيء معيّن، ليس أكثر من نقطة في بحر العناوين التي نجدها في فهارس المكتبات وعلى شبكة الإنترنت. ليس أولها “قطر الندى وبل الصدى” لجمال الدين بن هشام الأنصاري، وهو كتاب في النحو يعود إلى القرن الرابع عشر الميلادي، ولا آخرها رواية غربية بعنوان “أطول صدى”، للكاتب الإيرلندي إيون ديمسي، صدرت في شباط/فبراير من العام الجاري 2021، ومسرح أحداثها مقاومة الفاشية في إيطاليا خلال الحرب العالمية الثانية. وما بين هذا وذاك، نجد أن نجيب محفوظ، على سبيل المثال، نشر خلال تسعينيات القرن الماضي، وبفارق زمني لا يتعدَّى السنوات الخمس، كتابين ظهرت مفردة الصدى في عنوانيهما وهما: “أصداء السيرة الذاتية” والمجموعة القصصية “صدى النسيان” للدلالة على الاسترجاع الجزئي.
إن الربط الأدبي بين الذكريات والصدى حتى حدود التماهي ما بينهما، كما يظهر عند أحمد شوقي في الشعر، هو أكثر المفاهيم شيوعاً في لغة الأدباء، وخاصة كتّاب الروايات التي تجري فيها محاولات استرجاع الماضي أو استعراضه، للدلالة على أن هذا الاسترجاع يبقى جزئياً.
ومن باب الدلالة على ما يمكن للصدى أن يعبرّ عنه من أمور وقدرة صورته الأدبية على الاختزال، نتوقف أمام واحد من أشهر الأعمال الأدبية العالمية في السنوات الأخيرة، ألا وهو رواية “ورددت الجبال الصدى” للأديب الأفغاني الأمريكي خالد حسيني.
تدور أحداث هذه الرواية ما بين عامي 1952 و2012، وبطلاها طفلان أفغانيان: عبدالله وباري متعلّقان جداً ببعضهما، حتى إن عبدالله يعمل جاهداً على جمع ريش الطيور الذي تحبه شقيقته البالغة من العمر ثلاث سنوات. ويفترق الشقيقان عندما يضطر الأب إلى أن يبيع طفلته بسبب فقره. وبعد خمسين سنة وحياة حافلة بالأحداث والأسفار، يلتقي الشقيقان في مدينة لوس أنجلس الأمريكية.
ولكن عبد الله المصاب بمرض الزهايمر يعجز عن تذكر الكثير. وعندما تقدِّم ابنته إلى عمتها علبة الريش التي احتفظ بها والدها لشقيقته، تعجز باري عن تذكر ما تعنيه هذه العلبة، وتكتفي بالتعبير عن امتنانها لأن أخاها أبقاها في ذاكرته. ففي نهاية العمر، في هذه الرواية كما في كثير غيرها، ومهما بلغت محاولة استرجاع الأحلام والجهود والمعاناة والآمال، فإن كل ما يحصل عليه المرء هو مجرد “صدى”.

——————

رئيسة القسم الثقافي في “الدنيا نيوز”