الحج …شوق يعصف كل عام الى البيت الحرام… وقائع تاريخية للرحلة المباركة

 

 

“الدنيا نيوز” – دانيا يوسف

طوال قرون متعاقبة، ومن كافة أرجاء العالم الإسلامي، قطع الحجاج آلاف الكيلومترات، عبر البر والبحر، في رحلات استغرقت أشهراً للوصول إلى المقصد النهائي في مكة المكرمة، ورغم ما صاحب الرحلات من مخاطر وصعاب إلا أن الشوق لبيت الله الحرام وتلبية النداء كان زادهم ومعينهم الأول على المواصلة حتى بلوغ الغاية.
الحج… رحلة دينية بطابع خاص
مع انتشار الإسلام ودخول أهالي البلاد التي وصلها الدين، بدأت تنتظم رحلات سنوية قادمة من جميع البلدان قاصدةً أداء فريضة الحج في مكة المكرمة، تفاوتت الرحلات في طولها والطرق التي سلكتها، فمنها ما تحتم على أصحابها عبور الجبال أو الصحاري، ومنها ما فضل سالكوه اتخاذ البحر طريقاً لهم رغم ما فيه من مخاطر. كما بدأت تتكون مظاهر وطقوس خاصة برحلة الحج، ومن ذلك ما اشتهر به عدد من المتصوفة ممن قطعوا العهد على أنفسهم بعبور الرحلة سيراً على الأفدام، إضافة إلى تبلور مظاهر خاصة بالحج ذات طابع اجتماعي؛ كالتجمع في المدن قبل الانطلاق، وتوديع الأهالي للحجاج، ومن ثم استقبالهم عند العودة، وهكذا اكتسبت رحلة الحج منذ زمن مبكر تقاليد وطابعاً خاصاً بها، ما جعلها تتجاوز حدود الدين والعبادة للتداخل مع الثقافة والتقاليد.


ولم يكن طول الرحلة هو التحدي الأبرز، وإنما ما صاحبها من مخاطر وصِعاب؛ كالتعرض لقطاع الطرق والمفسدين، الذين وجدوا في قوافل الحجاج غنيمة سهلة، وبدأوا بترصّدها طمعاً في سلب ما يحمل الحجاج، وهو ما دفع بعدد من الدول للمبادرة إلى إرسال قوات مصاحبة للقوافل مع نشر العسكر على طول الطريق، وكان لذلك اعتبارات مهمة، فكان تأمين طرق الحج يعتبر دليلاً على قوة الدولة واستتباب الأمن في أرجائها. وتذكر كتب التاريخ أنّ أول من بادر إلى تذليل صعوبات طرق الحج كان الخليفة العباسي “هارون الرشيد”، عندما أمر ببناء طريق من بغداد إلى مكة والمدينة، فذللـه ووضع على طوله خزانات مياه وقوات من الجند، وعُرف هذا الطريق باسم “درب زبيدة” نسبة إلى “زبيدة” زوجة هارون الرشيد.
دمشق والقاهرة… نقطة الانطلاق الأخيرة
امتدت طرق الحج على طول آلاف الكيلومترات في أرجاء العالم الإسلامي من الصين إلى إفريقيا، ومن الهند إلى الأندلس، وكان الحجاج القادمون من أطراف العالم الإسلامي يستغرقون سنوات في رحلة الذهاب والعودة، وكانت الرحلة مجزأة على مراحل مع التوقف في المدن على امتداد الطرق، واغتنم كثير من الحجاج ذلك إما في التجارة أو في طلب العلم على علماء المدن التي يمرون بها، وكانت مدن العراق كبغداد والكوفة والبصرة من المحطات المهمة للقادمين من مشرق العالم الإسلامي في حين كانت مدن كالقاهرة والقدس ودمشق محطات على طريق القادمين من الشمال والغرب قبل الوصول إلى المقصد الأخير في الحجاز. وبعد سقوط بغداد العام 1258 أصبحت القاهرة ودمشق نقطتي التجمع الرئيسيتين للحجاج، قبل انطلاقهم في الرحلة الأخيرة إلى مكة، وكانت المرحلة الأخيرة تستغرق وحدها مدة شهرين إلى ثلاثة أشهر.
وهكذا اشتهرت منذ ذلك الحين قافلتا الحج الشامية والمصرية، وكانت قافلة الحج الشامية تضم الحجاج القادمين من حلب والأناضول وأوروبا، والقادمين من وسط آسيا وإيران والعراق، إضافة للقادمين من مدن الساحل الشامي كصيدا وصور. أما القافلة المصرية فكانت تضم حجاج القارة الأفريقية، فإلى جانب حجاج مصر كان هناك الحجاج القادمون من أرجاء المغرب العربي، والسودان، وممالك المسلمين بغرب إفريقيا وحجاج الأندلس.
المَحمَل.. سنة “شجرة الدُرّ”
ويطلق على كل من القافلتين أيضاً اسم “المَحمَل الشامي” و”المَحمَل المصري”، وذلك نسبة إلى الهودج الذي يحمله جمل يتقدم القافلة، ويكون في داخله الهدايا العينية والنقدية المرسلة إلى البيت الحرام. ويرجع أول ظهور لـ “المحمل” إلى عهد شجرة الدر، زوجة السلطان الأيوبي الصالح نجم الدين أيوب، حين خرجت إلى مكة لأداء الحج فركبت هودجاً خاص بها حاملةً معها الهدايا، ومنذ ذلك الحين أصبح المحمل عادة ثابتة وسرعان ما انتقلت إلى قافلة الحج الشامي كذلك.
وكان المحمل الشامي مخصصاً لحمل الشموع والزيت اللذين يستخدمان لإنارة الكعبة في ليالي الحج. وكذلك حمل الملبس وماء الورد لإهدائه إلى الحجاج في الحرم الشريف، في حين كان المحمل المصري يحمل كسوة الكعبة المشرفة.
ومع مرور الزمن تطورت تقاليد خاصة بصناعة المحمل وتجهيزه، فكان يكسى بحلل من الديباج والقماش المخملي الملون مع تطريزها بخيوط ذهبية، وكتابة آيات من القرآن الكريم عليه.
مراسم خاصة للتوديع والاستقبال
وكانت قافلة الحج الشامي تغادر دمشق من حي الميدان أما القافلة المصرية فتخرج من باب الفتوح؛ حيث كان الأهالي يجتمعون حول القافلة لوداع أهاليهم، ويغنون الأغاني الخاصة بذلك، كما كانت مراسم التوديع تشهد حضوراً رسمياً من الولاة والأمراء. وبعد نحو الخمسين يوماً تعود القوافل ويستقبلها الأهالي فرحين بالأهازيج والأناشيد، كما تزيّن الشوارع والبيوت فرحاً بعودة الحجاج سالمين من الرحلة الشاقّة، وتعبيراً عن الفرح بعودة الحاج يطلق عليه لقب خاص كـ “عم الحاج” أو “حاجي” أو “سيدنا الحاج”. ولكن مناسبة العودة لم تكن سعيدة دوماً، فكثيراً ما كان الأهالي يفجعون بمصيبة فقد أقربائهم من الحجاج بسبب طول الرحلة وعنائها وما فيها من مخاطر يتعرضون لها، وتذكر كتب الرحلات والتاريخ وقوع فواجع عديدة حلّت بالحجاج كان يوقعها بهم قطاع الطرق من البدو الساكنين على طول الطريق.
الحجّ عبر البحر
لم يقتصر الحج إلى مكة على الطرق البرية؛ فهناك بلاد وصلها الإسلام كانت عبارة عن أرخبيل من جزر كمناطق جنوب شرق آسيا، كما اختار العديد من الحجاج من الأماكن البعيدة -كالمغرب العربي وشبه القارة الهندية- طريق البحر تجنباً لطول الطرق البرية ومخاطرها، وهكذا ظهرت طرق بحرية مختلفة للوصول إلى البحر الأحمر ومن ثم النزول في الحجاز.
وخلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بدأ استخدام البواخر الحديثة في رحلة الحج إلى مكة المكرمة، التي قصرت من المدة الزمنية المستغرقة في الرحلة، وبدأ بذلك يزداد عدد الحجاج المسافرين على الطريق البحري. وأدى افتتاح قناة السويس العام 1869 إلى المزيد من الاختصار للوقت للقادمين عبر البحر الأبيض المتوسط.
الحج بواسطة سكك الحديد
افتتح خط الحديد الحديدي الحجازي العام 1908، وبدأ بنقل الحجاج من دمشق إلى المدينة المنورة، مما سهل رحلة الحج وباتت تستغرق أربعة أيام فقط، وهو ما أدى إلى توقف قافلة الحج الشامي وتراجع أعداد الحجاج الملتحقين بها، وهو ما أدى إلى الإضرار بمصالح قبائل البدو التي كانت تستفيد من حمايتها للطريق، وهو ما دفع بها إلى الإضرار بالسكة خلال الحرب العالمية الأولى والثورة العربية الكبرى.
تعاقدت حكومة المملكة العربية السعودية وشركة الخطوط الجوية المصرية العام 1936 على نقل الحجاج بواسطة الطائرات، وقدمت شركة الخطوط الجوية المصرية أول خدمة طيران للحجاج في العام 1937. وتعطلت رحلات الحج الجوية خلال الحرب العالمية الثانية. ثم بدأ ينتظم نقل الحجاج جواً بعد الحرب العالمية الثانية.
واليوم، يصل عدد الحجاج سنوياً إلى نحو 2.5 مليون حاجّ، يأتون عبر البر والبحر والجو، ويتم تنسيق رحلات الحج ومنح التأشيرات للقادمين لأداء فريضة الحج عبر وزارة الحج السعودية بالتنسيق والإشراف مع وزارات الأوقاف في الدول والشركات والوكالات السياحية.