الأبعاد الدولية لإنهيار لبنان (2) الرؤية الروسية

بقلم د . غسان الخالد*

أود الإشارة اولا إلى أن هذا التحليل يستند إلى عدد من الكتب والمقالات المتعلقة بالسياسة الروسية في العالم. ومن أهم ما كتب حول الموضوع اذكر على سبيل المثال لا الحصر :
١-نفوذ روسيا في الشرق الأوسط، أكبر تحد يواجه بايدن
٢-الأهمية الجيوستراتيجية وأثرها على العلاقات الروسية الايرانية
٣-القوة العظمى لروسيا
٤-التنافس الروسي الأميركي في الشرق الأوسط، ومثله التنافس، الروسي البريطاني في الخليج العربي
٥- كتاب أسس الجيوبولتيك، مستقبل روسيا الحيوبولتيكي، للكاتب ألكسندر دوغين، الذي عمل مستشارا في البرلمان الروسي من العام ١٩٩٨ وحتى العام ٢٠٠٣.
يعد هذا الكتاب بمثابة الدستور الذي تبني عليه روسيا سياستها الدولية، وكل ما ذكرته سابقا، وما لم اذكره إن هو إلا تفصيل للرؤية الاستراتيجية الروسية في سياستها الدولية في الشرق الأوسط كما في أوروبا وأفريقيا لاحقا والتي بدأت تشهد حضوراً روسيا ويمكن لمن يود الاطلاع على تفاصيل أكثر مراجعة مقال روسيا وإعادة اكتشاف أفريقيا من جديد.
ونظرا لأهمية الكتاب سوف الخص بعض ما يوضح لاحقا السياسة الروسية.
يعتبر الكاتب أن الجيوبولتيك هي وجهة نظر السلطة وهو من منظور علم الفئات السياسية العليا، الفاعلة والبديل. ويقسمها إلى نوعين هما التيلوركراتيا اي علم البر، والتالاسوكراتيا اي علم البحر.

ينظر الكاتب إلى النوع الأولى على أنه ثابت لأنه مرتبط بالمكان وثبوته، وخصائصه، بما فيها رسوخ توجهاته.

أما النوع الثاني والذي هو حكم البحر، فهو غير مستقر، وديناميكي، فيه الكثير من الحركة والتغير، وبهذه الصفات المتحركة تنتفي المعايير الخلقية أو الأخلاقية، مما يتيح تغيير المعايير الثقافية والقيمية
يتابع ألكسندر دوغين باستخلاص مفهوم آخر هو ريم لاند(Rim land), اي ارض الحافة وهي المناطق التي لا تدخل في صلب اليابسة كما لا تدخل في صلب البحر.
وبنظرة تكاد تكون عنصرية إذا نظرنا إليها من زاوية تمجيد الكاتب للمنطقة الجغرافية التي يعتبرها مركز العالم وهي اوراسيا، والتي تشمل روسيا وأجزاء من أوروبا الشرقية.وهو ما يبني عليه في ترتيب الدول جغرافيا وفق بعدها عن اوراسيا، او وفق التقسيم ذو بعد حضاري، وهنا أيضا ما يوحي بعنصرية ما. تجدر الإشارة إلى أن الكاتب لا يعترف بالدولة الفدرالية كما لا يعترف بالدولة القومية أو الدولة الأمة. ولذلك هو يدعو إلى إيجاد الإمبراطورية الروسية، حيث يرى أن ثمة ثقافة مشتركة في اوراسيا.
وإذا كانت اوراسيا هي مركز العالم، فذلك يستتبع تصنيف العالم الآخر، حيث يرى أن بعض الدول تشكل ما يسميه الهلال الداخلي، ومن هذه الدول الصين وجنوبها بشكل أساسي، والهند، وصولا إلى البلاد العربية وشمال أفريقيا، او ما يعرف بالشرق الأوسط. ويعتبر الكاتب أن اليونان وإيطاليا، وجنوب فرنسا، وإسبانيا هي منطقة الفعالية والأكثر حضارية، وهنا أيضا نرى وجها من وجوه العنصرية في هذا التصنيف.
تعتمد الجيوبولتيكيا الروسية وفق الكاتب، على خطوات تقوم على إقامة تحالفات تسمح بمد حدودها البحرية، مع اعطاء الأهمية القصوى للجانب الروحي، بعيدا عن الإلحاد، مع اعتماد القيم الأخلاقية في التعاطي مع الأقليات بعد منحها الاستقلال الذاتي. ويترافق ذلك مع مرونة في الاقتصاد وابتعاد عن الخصخصة.
مما لا شك فيه أن روسيا استطاعت إلى حد ما ممارسة سياستها الدولية وفق هذا المنظور، رغم أن بعض المسائل فيها خلافات في وجهات النظر قد تصل إلى التعارض مع بعض الدول كما في التنافس الروسي التركي على القوقاز، مع ان روسيا أبدت تفهما للدور التركي في سوريا، كما استطاعت أن تبني علاقات متينة مع إيران وسوريا، مع الحفاظ على العلاقات المتينة مع الكيان الصهيوني، خصوصا وأن ما يقرب من مليون يهودي روسي موجود في الكيان، كما أن اللوبي الصهيوني موجود في الكرملين كما في الكثير من دول القرار. من هنا أرى أن البراغماتية الروسية والواقعية السياسية التي تمارسها، قد ساعدتها على مد نفوذها، بالتواجد العسكري المباشر، في المشرق العربي وفي سوريا تحديدا، وهي تحاول الان الانفتاح على الخليج العربي، في محاولة لكسر الحصار الذي فرض خليجياً على التعامل مع روسيا الشيوعية باعتبارها دولة ملحدة، وهو ما يكرس الرؤية الاستراتيجية التي ذكرها الكاتب الروسي المذكور، في مسألة الإيمان وايلاء الجانب الروحي الأهمية.
اعتقد انه من المفيد القول إن روسيا العسكرية لا تستطيع تحقيق أحلامها بالقوة العسكرية فقط، وهي لا تمتلك اقتصاديا قوياً يسمح لها بضخ المال في الدول التي تتعامل معها. ولذلك فإن من أبرز ما قامت به كتعويض عن ذلك، هو في الاتفاق الذي أبرمته مع الصين،في إطار ما يسمى صفقة العصر، والمتجلي في اتفاق الغاز.
اتفاق الغاز هذا لا يشكل تعويضا عن ما قد تخسره روسيا في أوروبا فحسب، بل يسمح لها بالاستمرار ببناء قوتها العسكرية وتحقيق نسب تنموية مرضية. فالاتفاق يقضي باستيراد الغاز الروسي والتي تقدر قيمته ب ٣٨ مليون متر مكعب مقابل ٤٠٠ مليار دولار وهو ما يكسر، او يساعد على كسر الهيمنة الأميركية (الاتفاق الصيني الروسي طبعا).
وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار الدول الأخرى المشاركة في ما يسمى دول البريكس، والدول الأخرى التي بدأت تنفتح على بعضها البعض، ستدرك أهمية ما تقوم به روسيا بالتحالف مع الصين. ولعل نظرة صغيرة إلى عدد سكان بعض هذه الدول كالهند وروسيا والصين والبرازيل وجنوب أفريقيا والذي يبلغ ٣ مليارات نسمة ستضاف إليها عشرات الملايين لاحقا، مع ناتج محلي لهذه الدول يقرب من ١٥ تريليون دولار، تعطينا فكرة واضحة عن أهمية التحالف الصيني الروسي، روسيا لجهة القوة العسكرية التي تملكها، والتي لا تجاهر الصين بها رغم امتلاكها لها، لكنها تضخ قوة اقتصادية لا تقل أهمية عن القوة العسكرية الروسية. وهنا بالذات ومن هذا التحالف يمكن لنا تصور ما ستؤول إليه الأمور في المنطقة العربية ولبنان جزء منها،خصوصا وأن الإتفاق الصيني الإيراني قد أعطى بعدا جديداً، ومنح كل الأطراف عنصر قوة. وقد ساعد في توفير عنصر القوة هذا، الوضع الاقتصادي للولايات المتحدة الأمريكية والمتردي نسبيا قياسا على الاقتصاد الصيني أو مقارنة به ومعه.
كيف تتجلى الأمور في المنطقة العربية ولبنان، في ظل وجود محورين سياسيين، ترسخ وجودهما بفعل السياسة الأمريكية المنحازة دوما، والتي لا رؤية استراتيجية لها سوى في حفظ أمن الكيان الصهيوني، وفي ابتزاز العرب من خلال سيطرتها على الموارد الطبيعية للدول العربية؟
يجمع معظم المحللين على أن الولايات المتحدة الأمريكية قد بدأت بالانكفاء عن الشرق الأوسط ولو نسبياً، تحت شعار مواجهة الصين. وما حاولته في الاستعجال باتفاقيات التطبيع في الحقبة الترامبية لم تنتفع منه مطلقا، ذلك أن اليمين المتطرف في الكيان استمر في عنجهيته، كما في ممارساته العنصرية تجاه الشعب الفلسطيني، وهو ما أدى إلى حرب احد عشر يوما لم يكن الكيان هو الفاعل فقط، لا بل كانت تلك الحرب من افشل حروب إسرائيل كما يصفها محللو دولة الكيان الصهيوني. وهذا ما يعني ضمنا نصرا لحركة المقاومة الفلسطينية، كما لمحور الممانعة بشكل عام، وقد ترافق ذلك بإعادة انتخاب الدكتور بشار الأسد رئيسا للجمهورية في سوريا. وبالمناسبة ووفقا البراغماتية الروسية، وعملاً بالواقعة السياسية، فقد بدلت نظرتها تجاه هذه المسألة بالذات، حيث كانت تبحث في فترة زمنية كمرحلة انتقالية بتغيير ما على هذا الصعيد.
إذن لقد ساعد التقارب الصيني الروسي، والمبني على التوافق في الرؤية حول النظام العالمي الجديد، والحد من الهيمنة الأميركية، على تعزيز موقف دول محور الممانعة، خصوصاً بعد أن قالت المقاومة الفلسطينية كلمتها في هذا المجال. فكيف سينعكس الأمر على لبنان؟.

————–

*باحث في الاجتماع السياسي