اتفاق الطائف إنهار مع الدولة، والحل باعتماد مداورة المناصب بين الطوائف اللبنانية

 

بقلم : عباس صالح*
نستطيع القول ان الهيكل اللبناني سقط فوق رؤوس الجميع. إنهار الاقتصاد، وانهارت على هامشه الدولة، بمؤسساتها كافة، وحتى القيم الانسانية والاجتماعية والمُثُل الاخلاقية والوجدانية لم تسلم من ذلك السقوط المريع، بعد ان أمعن الزعماء والقادة ومن خلفهم الساسة والنخب المجتمعية والادارية في امتصاص خزينة الدولة وانهاكها بأكثر من طريقة وسبيل، والتصرف بالمال العام والخاص، وصولاً الى افلاس الدولة وسرقة اموال المودعين في المصارف والخ، مما بات معروفاً للقاصي والداني، من سرقات واختلاسات معلنة، لا بل متلفزة، لكل ما وقعت عليه أيادي السياسيين والمسؤولين في البلاد حتى من هبات ومساعدات عينية ورمزية وصلت من الدول الشقيقة التي أشفقت رغم فقرها وحاجتها، على احوال المواطنين بعد الكوارث المتتالية التي حلت بالوطن المنكوب على كل مستوى.
هذه السقطات المتتالية التي دمرت الكيان اللبناني ونكبت أهله، باعدت بين جهات الحكم التي أوصلته الى هذا القاع، وأعادت تسعير سجال عنيف فيما بينها، ليس على تقاذف المسؤوليات حول ما آلت إليه امور  البلد والناس، بل على توزيعة الصلاحيات بين الرئاسات ومواقع النفوذ، في مشهد مضحك مبكي، ومثير للسخرية والعجب في آن، وكأن البلاد بأتم عافيتها ولا ينقصها الا بعض تعديلات دستورية أوتفسيرات لصلاحيات ما تزال مبهمة ومشوبة بالالتباسات منذ إقرار اتفاق الطائف في العام 1989 وحتى اليوم، ولن تُفسر وتُفكفك ألغازها يوماً لانها مصاغة أساساً بعبارات حمَّالة تفسيرات متعددة، لكي تبقى متاهة أحجيات. على ان بشاعة المشهد تتجلى أكثر فأكثر مع إعلان المسؤولين عن الحكم في لبنان بكل وقاحة وصلافة بأن خلافهم ناشيء من اختلاف على المحاصصة فيما بينهم وكأنهم يتقاسمون جثة ميت لم يبقَ من تركته شيء الا وسرقوها قبل موته. وهذه الصورة هي الاكثر إثارة للإستغراب والعجب منذ اندلاع السجال فوق انقاض الوطن الذي كان جميلاً.
على أي حال، وأياً تكن الصورة، فإن القوى الدولية والمحلية من المعنيين الجديين بصياغة المشهد اللبناني الجديد، والتي تعمل على تثبيته على خريطة العالم ، باتت على قناعة راسخة بأن اتفاق الطائف هو مكمن العلل باعتباره ولاّدة أزمات دائمة، نظراً لما يحمله من إلتباسات وأوجه متعددة في التفسيرات،  وعدم احترام لمندرجاته من كل القوى السياسية المعنية بتطبيقه، والى ما هنالك من مثالب بنيوية يحتوي عليها هذا الاتفاق المرحلي، وبالتالي فإن قناعة هذه القوى المؤثرة بمجملها ان اتفاف الطائف بات في ذمة الماضي التليد، ولن تقوم له قائمة بعد اليوم، ومن المستحيل أن يُبعثَ حياً. وحتى ولو قامت قيامة الوطن من جديد، وبقيت حدوده الجغرافية كما هي الآن، فإن أول الضحايا سيكون اتفاق الطائف، الذي فضلاً عن انه لم يُطبق يوماً بنصوصه الحرفية منذ إقراره قبل 32 عاماً، ولا سيما فيما يتعلق بضرورة إلغاء الطائفية السياسية، التي هي الآن بيت الداء الذي أدى الى الخراب الهيكل ، الا ان اتفاق الطائف تعرض لضربات وركلات من كل القوى التي واظبت على انتهاكه وجعلته شماعة علقوا عليها كل جرائمهم التي ارتكبوها بحق هذا الوطن.
والثابت ان كل المعنيين يستخدمون المناورات السياسية بشأن هذا الاتفاق “المحمل” بالتباسات عديدة، بحيث انهم يتغنون به في العلن، لكنهم يلعنونه في سرهم ليلاً ونهاراً.
فرئاسة الجمهورية ترى ان الطائف نزع منها الصلاحيات وقضى على النظام الرئاسي وجعل الرئيس أشبه بناطور القصر. ورئاسة مجلس النواب تعتبر ان الطائف كرس معادلات أبعدت رئيس المجلس عن القرار السياسي الفعلي وحصرت دوره في ادارة وتنظيم الجلسات التشريعية، وحتى رئاسة الحكومة تعتبر ان حقوقها الخاصة منتقصة مع إناطة القرار السياسي بمجلس الوزراء مجتمعاً وليس في يد رئيس الحكومة كما يشتهي، وبالتالي فإن شكل الحكم الفعلي يتحدد عند تشكيل التوازنات داخل اي توليفة حكومية جديدة باعتبار ان من يملك الثلث المعطل فيها اي ثلث عدد الوزراء زائداً واحداً هو الذي سيتحكم بالتعيينات ويسيطر على منافع الحكومة وتنفيعاتها وسيتحكم بلا شك بمقدرات البلاد وصفقاتها وسيسيطر على الهبات الدولية وما الى ذلك من مكاسب لا تعد ولا تحصى. وانطلاقاً من هذه الحسابات بالذات اندلعت معارك “داحس والغبراء” بين رئاستي الجمهورية والحكومة على الحصص المتمثلة باعداد الوزراء داخل الحكومة العتيدة وما تزال حتى حينه وتوقفت عندها كل حركة البلاد وسقط الوطن مع سقوط التسوية التي كانت مقررة.
من هنا يمكن وصف اتفاق الطائف ب”الملعون – المقدس” لدى كل افرقاء الحكم في لبنان، والذين لا يتفقون على اي شيء بمثل اتفاقهم على انتهاكه كلما دعت حاجتهم السياسية الى ذلك، وعليه فإن احداً منهم ومن القوى الدولية المعنية بلبنان، لن يوافق بعد الآن على أي حل يقضي بالخروج من الازمات الا على انقاض اتفاق الطائف، ويمكن تصور الحل الاولي الذي افصح عنه وزير الداخلية السابق مروان شربل بإعتماد المداورة في الرئاسات بين الطوائف اللبنانية كافة، طالما ان المعايير المعتمدة في الحكم هي الطائفية، وعلى اعتبار ان اللبنانيين جميعهم متساوين في الحقوق والواجبات، وليس هناك من تمييز بينهم، فيجب اعتماد المناوبة بشكل متناسق ومتوازن على كل الرئاسات وعلى كل المناصب الرئيسية بحيث لا يبقى اي منصب حكراً على طائفة محددة بعينها، ويكون اي لبناني مؤهلاً لتسلم أي منصب يطمح إليه ويستحقه، ولا سيما رئاسة الجمهورية بعد إعادة نظام الحكم الى جمهوري، وتعزيز هذا المنصب بصلاحيات رئيسية تعيد شاغله الى لعب دور الحاكم الفعلي والناظم لعمل كل السلطات، والحَكَم الدستوري الذي بيده إقالة الحكومة عند الحاجة، كما حل مجلس النواب ايضاً.
أما إذا لم تعتمد هذه الصيغة فإن على النخب السياسية والفكرية والاجتماعية أن تغوص في البحث عن صيغة حكم تلائم لبنان بتعدديته الحالية، بحيث تعكس عدالة حقيقية في التوزيعة اذا كان لا بد منها. وإلا فان الحل بالعودة الى الطائف من بوابة الالغاء الحتمي لطائفية كل المناصب بلا استثناء، وتطبيقه بحذافيره.
——————-
*رئيس تحرير “الدنيا نيوز”.