(إنهيار وطن 7) أحزاب الاسلام السياسي تواجه تفككاً بنيوياً

 

(في الحلقة السابعة من سلسلة مقالات انهيار وطن التي تنشرها جريدة “الدنيا نيوز” وفي سياق حديثه عن أدوار الاحزاب اللبنانية بمجملها في إسقاط الدولة وتداعي المنظومة، يواصل الكاتب الدكتور غسان الخالد في مقاله هذا الحديث عن احزاب  الاسلام السياسي والتيارات السلفية، وما تواجهه من أزمات وجودية تهدد بتفككها البنيوي وعن دور كل منها في سقوط لبنان).

بقلم : د . غسان الخالد*

سبق أن كتبت في أحزاب الإسلام السياسي، وفصلت في الحديث عن هذه الأحزاب، والديمقراطية فيها في كتابي الإسلاموقراطية قراءة سوسيولوجية في الفكر الديمقراطي للحركات الإسلامية الصادر عن منتدى المعارف في بيروت عام ٢٠١٣.وسوف اتحدث هنا عن هذه الأحزاب بعد ما شهدته من تراجع وانكفاء في دورها ليس في لبنان فحسب، وإنما في مختلف دول انتشارها. وسوف اتناول أحزاب الإسلام السياسي الأكثر انتشاراً وهي أربعة أحزاب وفق وجهة نظري، وسوف أبين كيفية تراجعها وفق المعطيات الجديدة المستجدة.
١-حزب التحرير: هذا الحزب كان محظورا في لبنان وسوريا والأردن ومعظم الدول العربية. نال الترخيص عندما شغل أحمد فتفت وزارة الداخلية بالتكليف، بعد استقالة وزير الداخلية، التي لم يبت فيها اصلا، لنقع في مخالفة دستورية قوامها وجود وزيرين يشغلان حقيبة واحدة، أحدهما مستقيل من غير الإعلان عن قبول الاستقالة والثاني مكلف، ويمارس مهامه بالأصالة. وبعد فترة من ما سمي الربيع العربي نال الحزب الترخيص في تونس. له مشروع يعمل عليه وهو مشروع الخلافة. غالباً ما يؤخذ عليه من قبل الحركات السياسية الإسلامية انه حزب مدرسي. حضوره لا زال ضعيفا ونخبويا إلى حد ما. ليس له أي تأثير في السياسة اللبنانية.
٢-جمعية المشاريع الخيرية، تعتبر بشكل عام ناشطة، ولها مؤيدوها في بيروت والشمال بشكل عام. معروف عنها أنها تهادن النظام وتحتفل بالكثير من المناسبات الوطنية قبل اغتيال الرئيس الحريري. لكنها احجمت عن كل هذه الاحتفالات لاحقا. كان من المفترض أن تمثل بنائبين في الانتخابات الأخيرة، لكن الطعن الذي قدمه مرشحها الفائز طه ناجي لم يكتب له النجاح بفعل قرار المجلس الدستوري الذي قرر إعادة الانتخابات، فيما اعتبرته المرجعيات القانونية، قرارا غير دستوري. تتحالف جمعية المشاريع الخيرية، مع القوى الوطنية في لبنان، مثل آل كرامي في الشمال، ومدعومة انتخابيا بشكل أو بآخر في بيروت من الثنائي الشيعي.
٣-الجماعة الإسلامية : نشأت في أربعين آت القرن الماضي. ادعت الحياد سابقا. شاركت في الحرب الأهلية في لبنان بفصيل مسلح كما شاركت بالمقاومة ضد الاحتلال الصهيوني. بلغت ذروة حضورها مع الداعية فتحي يكن الذي استطاع الدخول إلى الندوة البرلمانية مع اثنين آخرين من الجماعة عام ١٩٩٢. وقد شكل الداعية يكن رمزا من رموزها. وبعد تخليه عن مركز الأمانة العامة، عانت الجماعة ولا تزال من حالة ضياع على المستوى التنظيمي بفعل غياب رموزها، كما بفعل الصراع على السلطة. وهكذا لم يستطع خلفاء الداعية فتحي يكن من إعادة لم الشمل، سواء أكان عبدالله بابتي أو فيصل المولوي. وبعد اغتيال الرئيس الحريري، وانطلاقا من مبدأ مقاومة الاحتلال الصهيوني للتحالف مع حزب الله من خلال تجمع ديني كان الداعية يكن من أبرز قياداته ومعه الشيخ عبد الناصر جبري..
أثرت الأحداث في سوريا على موقف الجماعة، وتحولت القيادة الجديدة إلى راعية للمشروع التركي أو المشروع العثماني كما يسميه البعض. ولعل من أخطر السلوكيات السياسية التي حدثت مؤخراً هو ما أقدم عليه أحد المحامين المنتمين للجماعة الإسلامية، والمتمثل بحضوره حفل تدشين كنيس لليهود في بيروت، وهو ما أربك الجماعة. وباختصار يمكن القول إن الجماعة تعاني الان من مسألة الأكفاء على نفسها، بعد غياب قياداتها التاريخية أن صح التعبير.
٤-التيار السلفي: حضوره كان شماليا أكثر من بقية المناطق اللبنانية ربما لأن مؤسسه داعي الإسلام الشهال من طرابلس. نافسه شقيقه الدكتور حسن. تم استغلال التيار السلفي في جولات طرابلس الأخيرة، ثم تخلى عنه سياسيو السنة، وهو ما اضطر قيادته إلى مغادرة لبنان إلى تركيا حيث توفوا هناك. وما قيل عن الجماعة الإسلامية يصح قوله عن التيار السلفي. فهو يعيش الان حالة ضياع تام. مع العلم ان احد ابناء داعي الإسلام الشهال يعتبر أن معظم مشايخ التيار باتوا ينعمون برضى الأجهزة الأمنية في لبنان.
من الملاحظ بشكل عام ان احزاب الإسلام السياسي كغيرها من الأحزاب السياسية في لبنان، متأثرة بشكل كبير بأشخاص اعتبروا رموزا لها، وبالتالي، لم يعد يتوفر في هذه الأحزاب الأشخاص الكاريزماتكيين، وهو ما أثر ويؤثر على تواجدها وانتشارها، بل ويمكن القول، انه باتت هذه الأحزاب تعاني من مشكلة وجودية، واستمرارها شكلاً لا يعني بتاتاً محافظتها على الحضور الذي اتسمت به سابقاً. وربما نشهد لاحقاً انهيار هذه الأحزاب وافول نجمها كما غيرها من الأحزاب التي أفلت، والتي سبق أن ذكرت عدداً منها في المقال السابق مع العلم ان هناك أحزابا أخرى مناطقية كانت موجودة غير تلك المذكورة، وفي ظروف معينة ارتبط معظمها بمنظمة التحرير الفلسطينية، من حيث الدعم المادي والعسكري. كحركة ٢٤ تشرين الطرابلسية وغيرها وغيرها…

ويبقى السؤال عن أسباب تراجع دور أحزاب الإسلام السياسي مشروعاً، خصوصا الحزبين الأكثر انتشاراً، عنيت بهما الجماعة الإسلامية والتيار السلفي. بالنسبة للجماعة الإسلامية، فإن الضياع عائد إلى عوامل داخلية وأخرى خارجية. فمن جهة العوامل الداخلية يبقى الصراع على السلطة داخل الجماعة هو الأساس والأهم بعد انكفاء قادة اعتبروا في مرحلة سابقة رموزا لها. ويأتي في مقدمة هذه الرموز المؤسس الداعية الراحل فتحي يكن، منذ انتخابات العام ١٩٩٦، حيث شهدت الجماعة صراعا لم تشهده من قبل وخصوصاً لجهة الترشيح. وبعد اغتيال الحريري شهدت انقساما آخر نابعا من التباين في الموقف السياسي لبعض قادة الجماعة الإسلامية في لبنان، وتكرس هذا الانقسام بعد عدوان تموز، حيث شهدت الجماعة انكفاءآت أدت إلى تضعضع جسمها التنظيمي.
اما بالنسبة للعامل الخارجي فإن أحداث ما سمي بالربيع العربي، ووصول الإخوان إلى السلطة في تونس ومصر، والذي كان مقررا أن يشمل سوريا ودولا أخرى وفق ما ترويه وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون، عن التوافق مع الجماعة الإسلامية وايصالها إلى السلطة، كمقدمة للاعتراف بالكيان الصهيوني قد باء بالفشل بعد خلع الرئيس مرسي في مصر ، بدعم سعودي، أساسه الصراع بين المملكة العربية السعودية وقطر. وبعد الفشل في السلطة الذي عاشته تونس، ازداد ضياع الجماعة، وبات تركيزها على الحلم العثماني ممثلاً باردوغان. لكن الموقف السعودي من الجماعة والذي اعتبرها جماعة إرهابية، ساعد بشكل كبير على هذا الضياع والانكفاء،اضافة الى الشعور بأن الحلم الاردوغاني دونه الكثير من العقبات والتي بدأت تظهر أكثر فأكثر في أكثر من مكان.
اما بالنسبة للتيار السلفي، فإن ما سبق وذكرته عن قادة الجماعة ورموزها، يصح أيضآ على هذا التيار. لكن المفارقة الأكثر خطورة، والتي سوف تؤدي إلى خلل بنيوي في تركيبة هذا التيار إنما يكمن في التوجه السعودي الجديد على صعيد الفكر الديني.
يعرف التيار السلفي بأنه الأكثر تشددا، وقد اسميت هذه السلفية في كتابي المذكور آنفا بالسلفية الصحراوية، التي تختلف عن سلفية الإخوان المدينية. لا شك أن موقف ولي العهد السعودي، وبغض النظر عن ظروفه، كما عن معطياته، هو موقف متقدم جدا. أما ظروفه فلها أسباب ذات أبعاد دولية قوامها أبعاد تهم الإرهاب عنها التي لاحقت التيار السلفي منذ نشأته، وازدادت بعد ظهور تنظيم القاعدة، ثم لاحقا تنظيم داعش في العراق وسوريا، وهو ما شكل خطرا وجوديا على المملكة نفسها.
لقد تأثرت المملكة وولي العهد وفريقه السياسي، بأفكار جاريد كوشنر صهر ترامب ومستشاره. فهي وليدة الترامبية إذن، تلك الترامبية التي اعترفت بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، واستتبعته بقرار نقل السفارة، وصولا إلى صفقة القرن، والدين الإبراهيمي الجديد المقترح كحل للنزاعات الدينية، وهو بلا أدنى شك نتاج الفكر الصهيوني. فكيف سيتعامل أركان التيار السلفي في كل انحاء العالم مع هذه المتغيرات الجديدة، ولبنان بالطبع مشمول بها؟
تحت شعار الخطوات الإصلاحية في المملكة العربية السعودية، ورؤية ولي العهد لسعودية ٢٠٣٠ أو أكثر، بدأت نسف كل الفكر الذي قام عليه التيار السلفي، وما زاد الطين بلة، هو الخرق الأمني لهذا التيار، واستغلاله في الكثير من المحطات في توظيف سياسي سرعان ما تم التخلي عن أبرز وجوه التيار السلفي وخصوصاً في طرابلس.
لا شك أن حالة الضياع هذه، والرؤية السعودية الجديدة ستزيد من حدة الضياع والتشرذم، وقد تصل إلى مرحلة نسف وجودي لهذا التيار والفكر الذي قام عليه. وهكذا وكما نرى الان تراجعاً وانكفاء لأحزاب الإسلام السياسي في لبنان، فإن القادم قد يحمل تفككا بنيويا لهذه الأحزاب.