“أوكوس” استدارة استراتيجية صاخبة..!

بِقَلَم العميد مُنذِر الايوبي*

لم تكن خيارآ او قرارآ غير متوقع تلك الاستدارة الاستراتيجية لدى القيادة الاميركية السياسية والعسكرية نحو الشرق الاسيوي الاقصى والمحيطين الهندي والهادئ، لا سيما بعد ملامح انسحابات عسكرية نوعية التسلح احيانآ « سحب بطاريات صواريخ الدفاع الجوي Patriot من المملكة السعودية، انسحاب لقوات المارينز من عدة قواعد في الكويت والاردن الخ.. » قاربت التخلي عن معظم المستوطنات- المستنقعات في بعض الشرق الاوسط ووسط آسيا وشمال القارة الافريقية..
إذ كان مرتقبآ اخلاء القوات الاميركية ثلاث من قواعدها في شمال شرق سوريا وفق قرار وقعه الرئيس الاميركي السابق دونالد ترامب عام 2019 “لم يلتزم به قادة البنتاغون”، كذلك انهاء مهامها القتالية في العراق بحلول نهاية العام الحالي 2021 والابقاء على مستشارين وخبراء عسكريين لمهام تدريب الجيش العراقي، وفقآ لنتائج الحوار الاستراتيجي الاخير بين الرئيس الاميركي جو بايدن ورئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي..
لكن تأكيد المتوقع اتى من خلال الانسحاب المدوي من افغانستان، وبالرغم من امداد وزارة الدفاع الاميركية الجنرال Keeneth Mckenzie قائد القيادة المركزية الاميركية الوسطى US-CENTCOM إمكانات اضافية معززة من قيادة النقل USTC الجوي والبري والبحري القتالية، المتمركزة في قاعدة “سكوت” الجوية Scott Air Base الضخمة، الواقعة في مقاطعة Saint Clair ولاية Illinois وذلك بهدف الالتزام بموعد الانسحاب المحدد في 31 آب الماضي، فإن عملية ألإجلاء العسكري والمدني واللوجستي إتسمت بفوضى غير مسبوقة وارباك غير مقبول الاداء من قوة عظمى كالولايات المتحدة الاميركية… كما سجل خطأ التقييم الاستخباراتي بشأن المدى الزمني لتنفيذ المهمة (الانسحاب) خارج ضغط الاستهداف الهجومي، واحتمال سقوط العاصمة (كابول) بيد حركة طالبان، كذلك انهيار القدرة والعقيدة القتالية للجيش الافغاني الذي خضع للتأهيل والتدريب من الخبراء العسكريين الاميركيين على مدى سنوات. اضافة الى بروز استياء وخشية لدى دول حلف شمال الاطلسي NATO على خلفية قرار الانسحاب الاميركي السريع والغير منسق والتخوف من نتائجه على صعيد الامن الاقليمي والدولي ..!

 

استطرادآ؛ بعد شهر من عملية الاجلاء، اتت جلسة الاستماع امام لجنة برلمانية في الكونغرس- مجلس النواب- عاصفة ايضآ، حين وصف الجنرال Mark Melly رئيس هيئة الاركان الاميركية المشتركة حرب العشرين عامآ في افغانستان- ب”الفشل الاستراتيجي”؛ معترفآ ان بلاده خاضت “حربآ خاسرة” رغم انجاز القوات الاميركية مهمة حماية البلاد من تنظيم القاعدة.. في المبدأ تعليقآ؛ فان “الفشل الاستراتيجي” Strategic Failure من المنظور العسكري والجيوسياسي يكون نتيجة حتمية لفشل القرارات الاستراتيجية المبنية على خطط ومعطيات خاطئة سبق واعتمدت على مدى سنوات؛ وفي مؤداه فرض تعديلها سواء لتغير المعطيات او الاهداف والشروع بعملية التحول الاستراتيجي-القائمة حاليآ- التي اعطت الاولوية للقيادة العسكرية الموحدة في المحيطين الهندي والهادىء US-INDOPACOM التي تشمل بقعة عملياتها كل من الصين، الهند ودول النمور الاسيوية اضافة الى اوستراليا ونيوزيلندا وصولآ الى القارة القطبية الجنوبية؛ اي ما يوازي 52% من سطح الكرة الارضية..!

انطلاقآ مما تقدم، كانت اولى خطوات التحول الاميركي الجدية اعلان الرئيس جو بايدن عن التحالف الثلاثي الاستراتيجي مع المملكة المتحدة واوستراليا AUCUS، وذلك أثناء انعقاد القمة الافتراضية مع رئيس الوزراء البريطانى بوريس جونسون ورئيس الوزراء الإسترالى سكوت موريسون، كما تُرجِمت في آن الشراكة الامنية لهذا التحالف عبر قرار الحكومة الاوسترالية ومن جانب واحد فسخ عقد شراء 12 غواصة فرنسية، سبق وتم ابرامه عام 2016 مع مجموعة NAVAL للصناعات الدفاعية تقدر قيمته بحوالي 40 مليار دولار واستبداله بشراء غواصات اميركية ذات تكنولوجيا متقدمة عاملة بالوقود النووي..


من جهة اخرى؛ مما لا شك فيه ان اعلان انشاء حلف AUCUS لا تقتصر ارتداداته على الاستياء الفرنسي من الغاء صفقة الغواصات الاسترالية. اذ ان باريس رأت فيما حصل تجاوزآ لمبدأ المنافسة التجارية وتقويضآ للثقة بين الحلفاء من نوع “الطعن في الظهر”Stabbing in the back ، فكان استدعاء السفيرين الفرنسيين في واشنطن وكانبيرا سابقة هي الاولى من نوعها، كما لوحظ ايضآ عدم التضامن الاوروبي في هذه القضية مما فاقم حجم الغضب الفرنسي.. بالتوازي اعيد الى التداول مسألة انشاء الجيش الاوروبي الموحد من منطلق الرد على احادية القرار الاميركي وعدم التنسيق في القضايا الاستراتيجية المشتركة مع دول حلف الناتو او مع دول الصف الاول الاوروبي (فرنسا- المانيا) .
واذ تنظر واشنطن الى التحالف الثلاثي الجديد على انه خطوة تاريخية لضمان السلام والاستقرار في المحيطين الهندي والهاديء؛ فهو في معناه الاعمق احتواء استراتيجي لتمدد الصين الجيوسياسي وللتوسع التجاري والاستثماري المتنامي ولطموحاتها تطوير قدراتها العلمية والتكنولوجية في المجالين العسكري والفضائي. اذ باتت تعتبر بنظر واشنطن تهديدآ للامن القومي الاميركي والغربي بشكل عام، لا سيما إثر ارتفاع منسوب القتال بالسلاح الاقتصادي بين (الدولار واليوان) وكذلك العدائية الناتجة عن فكرة التسبب بجائحة COVID-19.!
تزامنآ؛ اتى رد الفعل من بكين هادئآ فقيادتها تعتبر انها القضية والهدف لدى الولايات المتحدة وهذه الاخيرة تواجهها بارباك مرتكبة “الفاولات” Fouls بحق نفسها وحلفائها الاوروبيين، كما تعتبر (بكين) ان اللعب على المسرح الصيني مؤلم مكلف، ليس بالامر السهل في ظل وجود الظهير الروسي. اذ يكفي ما قاله سفير جمهورية الصين الشعبية لدى روسيا (تشيانغ هانهوي) في توصيفه العلاقة الاستراتيجية الروسية-الصينية : “نحن اكثر من مجرد حلفاء.. نحن اخوة”.. المتحدث باسم الخارجية الصينية علق على قرار بريطانيا والولايات المتحدة تصدير تكنولوجيا غواصات نووية بالغة الحساسية لاستراليا معتبرا انه نموذج عن ازدواجية المعايير وغير مسؤول. مضيفآ “أن المجتمع الدولى بما فى ذلك الدول المجاورة يشككون فى التزام استراليا حظر الاتشار النووى”، مشيرا إلى “أن الصين ستراقب الوضع عن كثب”..
في نفس السياق؛ من الواضح ان الاستدارة الاستراتيجية للولايات المتحدة الاميركية نحو الحوض الحيوي الآسيوي للمحيطين الهندي والهاديء وتأسيس الحلف العسكري AUCUS لن يقتصر على شراكة امنية او عقود تجارية مع شركات التصنيع العسكري الاميركية وان تطابقت المصالح. اذ ان تزويد استراليا بالغواصات النووية ومنظومات صواريخ كروز وتوماهوك وفق ما سرب، اضافة الى الاعلان عن التعاون في مجال الحرب السيبرانية، يؤكد تنامي الصراع الصامت المؤدي الى سباق التسلح والولوج الى الحرب الباردة التي باتت حقيقة ملموسة ذات بنية مزدوجة بمواجهة روسيا والعملاق الصيني..

رؤيويآ؛ يبدو ان ادارة الرئيس جو بايدن تبني استراتيجيتها من منطلقين الاول ان التحالف الاميركي-البريطاني-الاسترالي لم يؤسس من منظور اقصائي، بل من زاوية قناعتها بعدم رغبة شركائها الاوروبيين الانخراط فيها او اعتمادها لتفاوت او اختلاف المصالح؛ والمنطلق الثاني الرهان على ان هذا التحالف ستتوسع دائرته لاحقآ ليضم دولا اخرى كاليابان وكوريا الجنوبية على سبيل المثال، بما يؤمن اطباقآ مثاليآ على النفوذ الصيني في المنطقة وبالتالي استباق تغير بنية النظام الدولي لجهة بروز الثلاثية القطبية في ادارة الكوكب..!

أخيرآ؛ ان التحول الاستراتيجي الاميركي نحو المحيطين والحدود البحرية الصينية سيكون انعطافة هامة في خريطة التحالفات، ترسيم خريطة جديدة للنظام العالمي تحدد نمط الصراع، قواعد التنافس وحدود المواجهة بكافة اشكالها.. يبقى السؤال كيف ستتلقف دول الاقليم الشرق اوسطي والعربي التغييرات الجيوسياسية.؟ وعلى ماذا ستبني استراتيجياتها.؟ من الواضح المؤسف لا بل المخزي ان ملاذ التطبيع مع العدو الاسرائيلي سيكون احد اسس المواجهة التي ستصل الى حدود التعاون العسكري والشراكة الامنية، مع تجاهل يصل الى حد التخوين للحريق المستعر ضمن الاراضي الفلسطينية المحتلة وما يتعرض له الشعب الفلسطيني من انتهاكات انسانية يومية. اما الدولة اللبنانية عليها السلام، فهي على درج الاليزيه تستجدي ما تيسر، في اقصى طموحاتها الاستراتيجية اعادة بناء مرفأ بيروت وايجاد الحلول للمشكلات المزمنة والمستجدة كالكهرباء والوقود والحد من نار الغلاء ..!

بيروت في 04.09.2021