أزمة حكومة أم أزمة حكم؟

بقلم : د. غسان الخالد

اتفق جميع المحللين السياسيين في لبنان على أن ما قبل الاثنين غير ما بعده. والحقيقة أن اللقاء الأخير الذي جمع الرئيس المكلف مع الرئيس في بعبدا، وما تلاه من تصريحات نارية بامتياز من الرئيس المكلف، ورد القصر لم يعبر عن أزمة تشكيل فقط، إذ أن هذه الأزمة قد نجد لها الحلول في أكثر من مكان، ما جرى يدل دلالة واضحة على أننا بتنا أمام أزمة حكم وليس أزمة حكومة.
في المعطيات ومنذ اتفاق الطائف جرت العادة على أن تشكل الحكومة في وقت قصير جدا نسبيا، ولعل الحكومة التي شكلها الرئيس الشهيد رفيق الحريري على إثر طرد وزيرين من حركة أمل، من أكثر الأمور المعبرة عن أساليب وطرق وآلية تشكيل الحكومات في لبنان. وفي المبدأ هناك قوى سياسية ممثلة في مجلس النواب وهي كانت ولا تزال كتل كبرى تمثل في الحكومة في إطار محاصصة طائفية وحزبية في آن، وتعطي الثقة للحكومة…. وعلى هذا الأساس ووفقاً لهذا المبدأ كانت تشكل حكومات ما بعد الطائف، وربما كان الوصاية دور كبير في التشكيل.
نحن نعيش الان ومن خلال الخلاف على تشكيل الحكومة، أزمة حكم بكل ما للكلمة من معنى. فرئيس الجمهورية الذي ابعده اتفاق الطائف عن السلطة لرفضه الموافقة عليه، عاد إلى القصر الرئاسي في بعبدا بما سمي اتفاق الرئاسة بين كتلتي المستقبل والتيار الوطني الحر، مدعوما برضى حزب الله والقوات اللبنانية، ولذلك أسباب لا تدخل في موضوع هذا المقال.
جرت العادة بعد اتفاق الدوحة على أن يعطى الرئيس حصة وزارية، وبات هذا الأمر وكأنه عرف، والعرف له قوة القانون في لبنان وحتى في الدول الأكثر تنوعا وديمقراطية.
ما حصل بالأمس لامس حدود الخلاف الجذري العميق في بنية النظام. هكذا ظهر وهذا ما بدا من تصريح الرئيس المكلف. فالرئيس المكلف لا تملى عليه الأسماء.
هذه النقطة هي موضع خلاف فقهي دستوري، بناء على اتفاق الطائف، فالبعض يفسر المواد الدستورية المتعلقة بكيفية التكليف والتشكيل إلى لحظة إصدار مراسيم التأليف، على أنها محصورة بالرئيس المكلف، وصدور مراسيم التشكيل يتم بعد موافقة رئيس الجمهورية. وهذا ما يجعل من رئيس الجمهورية رئيساً صوريا، من الاستشارات الملزمة إلى صدور المراسيم. والبعض الآخر يعتبر أن مقام الرئاسة ودورها ابعد من ذلك إذ لا يمكن أن يكون الطائف قد جعل من رئاسة الجمهورية صندوق بريد فقط لا غير. صحيح أن الطائف قد قلص من صلاحيات الرئيس لكن من غير المنطقي والدستوري أن يتحول الرئيس إلى صوري فقط. من هنا بالذات تبدأ أزمة الحكم الوجودية. أزمة قد لا نجد حلولاً لها إلا بعقد اجتماعي جديد وبرعاية أخرى لا أعرف كيف يترتب أو سوف تترتب أمورها.
لهذه الأزمة الوجودية عدة وجوه، والمشكلة الكبرى هي في التفسير الاستنسابي لدستور الطائف وفقاً للمصلحة الشخصية، والطائفية أيضا. ما حصل بالأمس أشعل نيران عدة. النار الأولى تجلت في عمق الشرخ بين أكبر كتلتين نيابيتين ممثلتين في المجلس النيابي. ويمكن القول إن هذا الخلاف الحاد الذي ظهر من تصريح الرئيس المكلف، أن لجهة الأسلوب ام لجهة اللهجة العالية النبرة، لا يعبر عن خلاف سياسي فقط، وإنما عن طريقة تفكير أقل ما يمكن القول عنها أنها ثأرية وفقا لذهنيتنا الموروثة. إضافة إلى الخلاف الوجودي حول تفسير الطائف، وربما يكون ابعد من ذلك، إذ قد يحمل في مضمونه استدعاء الخارج، الوصي المفكر به، اي التدويل، وهنا بالذات أيضا تكمن مخاطر وجودية على الكيان اللبناني، لأنه وبصرف النظر عن الوصي، سوف تكون حماية المسيحيين ومشاركتهم، واشراكهم في السلطة، من البنود الأولى التي قد تطرح في أي مؤتمر لعقد جديد. مع العلم، أن أي مؤتمر بهذا الخصوص لن يكون بمعزل عن أحداث الإقليم برمته. وهنا يمكن الإشارة إلى المؤتمر الذي انعقد في سويسرا في العام ٢٠٠٤ وكان محوره كيفية وجود وطن بمثابة ملاذ آمن لمسيحيي الشرق. ونلاحظ هنا أن المقصود ليس مسيحيي لبنان وإنما الشرق برمته، اي الأردن وسوريا والعراق التي زارها البابا مؤخراً، إضافة إلى أقباط مصر..
في السياسة، وعندما تدرك القوى المختلفة أن كلفة الحرب أعلى واكبر بكثير من كلفة التوافق تلجأ إلى التوافق، للحد من الخسائر السياسية والاقتصادية بشكل عام. أما أن تذهب بأرجلها إلى الحرب، وهنا استخدم المفهوم اصطلاحا، فهو ما يعبر ليس عن أزمة اختلاف بل عن أزمة خلاف، وهذه المرة، هو خلاف وجودي للأسف الشديد، قد تظهر إبعاده ونتائجهه في وقت ليس ببعيد. وعندها لا يمكننا أن نحمل طرفاً واحداً المسؤولية، بل إن كل الأطراف ستكون مسؤولة عما قد يحدث… وما قد يحدث لا يبشر بخير، ذلك أن الوصاية التي سوف تراعي الجماعات المشكلة للكيان اللبناني، سوف تجر الويلات…

——-

طرابلس في 23 3 2021