“أرض الرجال” حين تنبض الرواية بالاحاسيس .. وترصد عذابات البشر وهواجسهم وأحلامهم

 

“أخبار الدنيا” – دانيا يوسف

 

وُلِد أنطوان دو سانت إكزوﭘِري Antoine de Saint Exupéry في مدينة ليون بفرنسا عام 1900 وتوفي عام 1944 بسقوط طائرته خلال مهمة استطلاعية في الحرب العالمية الثانية.
كانت حياة دو سانت إكزوﭘِري موزعة بين عشقه الهائل للطيران والكتابة التي لجأ إليها في مراحل حياته الأولى كسبا للعيش. غادر فرنسا بعدما احتلتها ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية، فعاش الوحدة والقلق والغربة فهرب من ذلك بالكتابة، فكتب عدة روايات استوحى أغلبها من مهنته وهوايته كطيّار، منها “طيار حربي”، “طيران الليل”، “رسائل الشباب”. أمّا آخرها فكان رواية “الأمير الصغير” التي اشتهر بها وكتبها بحثاً عن طفولته الضائعة، فكانت ساحة العمل على إنجازها شقة صغيرة أسماها “منزل الأمير الصغير”،حيث يكتب ويدخن وينام قبيل الفجر، وأوراق المخطوطة
“الأمير الصغير” تشاركه الفراش، مبعثرة من حوله. وقد نشرت هذه الرواية قبل وفاته بسنة، وترجمت إلى أغلب لغات العالم وعُـدّتْ من أهم روايات القرن العشرين. وقد عبّرت كتابات “دوسانت إكزوبري” عن انشغاله العميق بالوجود الإنساني، ورغبته في العثور على معنى خلقي وروحي لهذا الوجود، وسط فضاءات تتسم بالعزلة والوحدة، وهذا ما يتجلّى في رواية “أرض الرجال” التي هي موضوع حديثنا.
أحداث الرواية:
أرض الرجال هي رواية تقع على التخوم الفاصلة بين سرد “السيرة الذاتية” خيالياً والسيرة الذاتية الفعلية، فهي تتناول لحظة عايشها المؤلف خلال عمله طياراً ينقل الرسائل والطرود البريدية عبر دول أفريقية عدة. تسقط طائرة بطل الرواية في وسط الصحراء الكبرى، ولكنه ينجو من الموت، ووسط محاولة النجاة بنفسه، ومحاولة رفاقه الطيّارين العثور عليه، تُبنى أحداث الرواية عبر أسلوب الاسترجاع أو الفلاش باك، لنعيش فصولاً من حياته كطيار.
تنقل رواية “أرض الرجال” بعضاً من إحساس الطيّارين بالأرض وانطباعتهم، إنه إحساس ينطلق من خلال سعي الإنسان إلى الدهشة ولذة الاكتشاف والمغامرة القصوى، وهناك ذلك التوق إلى الحرية والحنين إلى تلك الذكريات التي يكوّنها هؤلاء الطيّارون خلال أوقاتهم المشتركة، وهي ذكريات تحيا وتنمو معهم، يستدعونها في أوقات عدة ومنها في أوقات رحلاتهم الطويلة تؤنسهم وتعينهم على تعبها وآلامها، وتعينهم على الموت المحتمل والسقوط المريع. فربما غفت عين الطيار لحظات، فلا يصحو بعدها إلا في عمق هوّة سحيقة، أو وسط ركام جليد، أو في متاهات رمال الصحارى القاحلة. وربما لا يصحو مطلقاً.
المكان في رواية أرض الرجال غير تقليدي، هو ليس تلك الجبال والأودية والمدن التي يصفها الكاتب، بل هناك مكان له خصوصية وهو مقصورة الطائرة، ذلك المكان الضيق المطل على الأرض والذي يجلس داخله القائد المغامر وعبر زجاجها يكتشف رحابة الكرة الأرضية وجمالها، حيث جبالها الشاهقة وسماء ليلها المرصع بالنجوم الباعثة لأحلام رائعة من جهة، ومن جهة أخرى تطلق هواجس مخيفة من تعطّل الطائرة وسقوطها.
وكما كان المكان في الرواية غير تقليدي، فكذلك كان زمانها، يتداخل فيه بين الماضي بالحاضر، تتمازج فيه لحظات التحليق الليلية وذكريات التدرب وترقب أخبار طائرة فقدوا أثرها وهم يسترجعون مناقب قائدها. لم تكن رحلات عادية تلك التي وصفتها الرواية لطائرات غير متطوّرة تنقل البريد بين دول شمال أفريقيا وأوروبا، ووصفت الصحراء العربية وغاصت بين سفوحها وصعد قممها، وفيها قابل بطل الرواية بشراً جعلوه يطرح على ذاته تأملات إنسانية عميقة حول الإنسان والطبيعة. فحين سقطت طائرته في أحضان الصحراء القاحلة أعاد اكتشاف ذاته، ليقول: “الصحراء هي أنا، لم أعد أكوّن لعاباً، ولكنني لم أعد أكوّن، كذلك، الصور العذبة التي كان في إمكاني أن أنتحب من أجلها، لقد أيبست الشمس فيَّ نبع الدموع، ومع ذلك ماذا أبصرت؟ نسمة أمل مرّت عليَّ مثل رعشة على صفحة البحر”.
قيمة الرواية:
“إن الأرض تخبرنا عن أنفسنا أكثر من الكتب كلها، ذلك أنها تقاومنا”. هكذا يقول أنطوان دو سانت إكزوﭘري في أحد صحفات رواية “أرض الرجال”. ففيها رصد لعذابات البشر وهواجسهم وأحلامهم، البشر الضعفاء أمام قوى الطبيعة برغم علومهم وتقنياتهم المتطوّرة، العاجزين عن سبر غور الطبيعة وقواها الخارقة. إن كل شيء يشكل هاجسا بالروح في هذه الرواية, حتـى الأشياء لها روح كما البشر، الأشياء في بساطتها وجمالها وصفائها.

——————————-