من الجنوب إلى البحر: هل تُسقِط هندسة السيادة اتفاق الترسيم البحري..؟
خاص – “الدنيا نيوز”

(استكمالًا للتحليل الوارد في مقال «الجنوب اللبناني.. من إدارة النزاع إلى إعادة هندسة السيادة»)
بقلم العميد منذر الأيوبي*
في الطرح الإسرائيلي المتداول حول تقسيم منطقة جنوب نهر الليطاني إلى ثلاثة خطوط وظيفية، يبرز سؤال مركزي يتجاوز الجغرافيا البرية، ليصح السؤال: هل يقتصر هذا المنهج على الجنوب فيما لو تمكن العدو من فرضه..؟
أم أنه يعكس تماديآ في غَيّ إن لم يَرعَوي، بمعنى مقاربة أوسع لإدارة السيادة اللبنانية قد تمتد إلى ملفات أخرى، في مقدّمها اتفاق الترسيم البحري..؟
مبدئيًا، لا مؤشرات سياسية جدّية لِسعي إسرائيلي أو موافقة أميركية على إعادة فتح اتفاق الترسيم البحري من الناحية القانونية. إذ ان الاتفاق أُنجز ضمن إطار قانوني دولي واضح، ترافق مع التزامات سياسية واقتصادية واستثمارية تجعل أي محاولة لتعديله او المَس بِه خطوة عالية الكلفة وغير واقعية في المدى المنظور. لذا فمن الخطأ مقاربة الموضوع من زاوية إعادة الترسيم أو التشكيك بالخط 23.
ثم أن الخطر هنا لا يكمن في تعديل الخطوط، (كما أسلفنا) بل في تغيير وظيفة السيادة جنوبآ. هذا هو جوهر طرح بنيامين نتنياهو على الرئيس الاميركي في قادم الأيام: الإبقاء على الخط الأزرق مرجعية شكلية، مقابل فرض وقائع أمنية وإدارية داخل الأرض اللبنانية تُفرغ الخط من مضمونه العملي. هذه المقاربة، إذا ما جرى تثبيتها، تؤسس لسابقة سياسية–أمنية تتجاوز البر بحدوده التقليدية.
في السياق البحري، يصعب استنساخ نموذج «الخطوط الثلاثة» حرفيًا، لكن يمكن إسقاط المخطط نفسه بأدوات مختلفة. الخشيّة لا تتمثل في إعادة رسم حدود المياه الاقليمية، بل في إدارة المنطقة البحرية المتاخمة للحدود المُرسّمة وفق شروط معلنة وغير معلنة، تتصل بتوقيت الاستثمار، نطاق الأنشطة المسموح بها، أو ربط العمل الاقتصادي باعتبارات أمنية تتجاوز القرار السيادي اللبناني الصرف.
بهذا المعنى، تصبح السيادة البحرية وإن قائمة قانونيًا إلا انها مشروطة وظيفيًا، ضمن منطق مطابق لما يُمكن ان يُطرح ويُفرض جنوبًا (سيادة معترف بها نظريًا، ومقيّدة عمليًا).. بمعنى خط الترسيم البحري ثابت على الورق، مقابل هامش حركة متغيّر في الواقع، خاضع لمعادلات الاستقرار ومنع التصعيد، لا لمقتضيات الحق السيادي الكامل.
الإشكالية الأساسية ليست تقنية ولا قانونية، بل سياسية–سيادية بإمتياز. فإذا جرى التسليم للعدو، ولو ضمنيًا، بأن الاستقرار يبرّر إنشاء مناطق برية ذات أنظمة خاصة وشروط استثنائية، يصبح من السهل لاحقًا تبرير قيود مشابهة في البحر، لا عبر تعديل الاتفاقات، بل عبر إدخال وصاية تراكمية زمنيآ فوقها. عندها، يتحوّل الترسيم من أداة تثبيت للحقوق إلى إطار قابل للتعليق الجزئي عند كل أزمة.
من هذه المنطلقات التي يجب ان تؤخذ بعين الإعتبار وتحت عدسة مجهر السيادة الوطنية الخالصة، لا يمكن فصل الموقف من الطرح المتداول جنوبآ، عن اتفاق الترسيم البحري والدفاع عنه. ليصبح كلا الملفين مرتبطان بسؤال واحد: هل تُدار السيادة اللبنانية كوحدة متكاملة غير قابلة للتجزئة، أم تُقسَّم وظيفيًا بين شرعية قانونية، ووقائع أمنية، وإدارة دولية ظرفية..؟
في المحصلة، ما يجري جنوبًا لا يجب قراءته كملف حدودي مستقل، بل كنموذج مُرشح للتمدّد سواءً في لبنان، سوريا وغيرهما.. إذ ان المياه الاقليمية البحرية، بما تحمله من ثقل اقتصادي واستراتيجي، قد تكون الساحة التالية لا لتعديل الخرائط، بل للهيمنة على المقدرات. هنا يكمن التحدي الإضافي، وعليه يجب أن يتحضر ويُبنى إستباقآ الموقف اللبناني ديبلوماسيآ، سياسيًا وأمنيًا..!
*عميد متقاعد، مختص في الشؤون الامنية والاستراتيجية.
تابع آخر الأخبار والتنبيهات أولًا بأول.