لماذا يعود ملف أرض الصومال الآن..؟ قراءة في الأسباب لا في الوقائع..!

خاص – “الدنيا نيوز”

بقلم : العميد منذر الايوبي

ليس بريئآ او صدفة إثارة قضية أرض الصومال في هذا التوقيت بالذات، إذ لا يمكن فهمها عودة متأخرة لملف تاريخي، ولا كنتيجة تطور داخلي مفاجئ في الإقليم نفسه. فأرض الصومال، من حيث الواقع السياسي والمؤسساتي، لم تشهد تحوّلًا نوعيًا يبرّر فجأة نقلها من الهامش إلى الواجهة. ما تغيّر فعليًا هو البيئة الدولية ومعطيات قد تسمح بتغيير المعادلات، عند هذا التقاطع تُعاد صياغة الأسئلة، وتُستخرج الملفات المؤجَّلة من الأدراج.

في الأسباب يمكن لحظ التالي:
اولآ: التحوّل الجيوسياسي للقرن الإفريقي. إذ ان المنطقة لم تعد خاصرة منسيّة، بل أصبحت عقدة مركزية على خارطة أمن الملاحة العالمية. البحر الأحمر وباب المندب باتا مسرحًا مفتوحًا لتقاطع الأزمات وحدة الصراع على النفوذ بين القوى الكبرى، وبالتالي تنامي المخاطر على سلاسل الإمداد. في مثل هذا السياق، يصبح أي كيان مستقر نسبيًا وقادر على ضبط سواحله موضع اهتمام، حتى وإن كان خارج النظام القانوني الرسمي.

اما السبب الثاني فيرتبط بـ (تبدّل وظيفة الاعتراف) Change in recognition function. إذ أثبتت الأحداث والوقائع ان الاعتراف بالدول والكيانات بات بعيدآ عن تبني وإحترام حقوق الشعوب، بل أداة سياسية تُستخدم للاختبار والضغط ثم إعادة التموضع. من هذا المنطلق فإن طرح ملف أرض الصومال لا يعني بالضرورة تأييد إنفصالها، بل إدخالها إلى سوق الرسائل المتبادلة مع الفاعلين الإقليميين الذين يراقبون أي تغير او إمكانية تغيير في خرائط النفوذ.

إستطرادآ يصبح السبب الثالث متعلق بتآكل شرعية النظام الدولي نفسه. اذ ان القواعد التي حكمت مرحلة ما بعد الحرب الباردة لم تعد صلبة. “أوكرانيا، اليمن، غزة، تايوان، البحر الأحمر الخ..”… كلها ملفات تُدار اليوم بمنطق القوة أكثر من منطق القانون. هنا تعود القضايا المؤجَّلة إلى التداول او يعاد إحياؤها، ليس على خلفية نضوج أخلاقي، بل لأنها أصبحت صالحة للاستخدام السياسي.

في هذا السياق لا يمكن تجاهل دور إسرائيل في تحريك الملف او كجهة أعادت تسليط الضوء عليه. ليصُح السؤال هل هو مبادرة مستقلة أم حلقة في استراتيجية أوسع..؟ تبدو قراءة قاصرة إعتبار هذا الدور بوصفه قرارًا منعزلًا، فإسرائيل لا تتحرك من فراغ، ولا تبتعد كثيرآ عن استراتيجيات البنتاغون ومسرح العمليات الحيوية التابع للقيادة المركزية الوسطى CENTCOM، كما لا تتعامل مع القرن الإفريقي خارج حسابات أمن البحر الأحمر ومحيطه.
إستنادآ، إن إثارة فكرة الاعتراف بأرض الصومال يمكن فهمها كجزء من منطق اختبار لا منطق الحسم: اختبار ردود الفعل الإفريقية والدولية، وقياس حساسية الخط الأحمر المتعلق بوحدة الدول، وإرسال إشارات استراتيجية في اتجاه أكثر من عاصمة.

تاليآ؛ في السياسة الدولية لطالما اعتمدت الولايات المتحدة مقاربة مزدوجة؛ ترك الحلفاء اولآ يلوّحون بالأفكار الحساسة، فيما تحتفظ هي بموقع “الضابط الأخير للإيقاع”. لا اعتراف أميركي، ولا رفض قاطع، بل إدارة للملف بوصفه ورقة قابلة للتوظيف عند الحاجة. من هنا، يمكن القول إن الدور الإسرائيلي أقرب إلى جسّ نبض استراتيجي منه إلى قرار سيادي ونهائي مكتمل، يتقاطع مع رؤية أميركية أوسع تسعى إلى ضبط التوازنات في البحر الأحمر دون تفجير تركيبة القارة السمراء.

توازيآ؛ هناك ما لا يمكن تجاهله، بالغ الدلالة وإن كان اقل صخبآ؛ إذ ان إستقرار إقليم (أرض الصومال) Somaliland يقدّم نموذجًا مُقنِعَآ ومُحرِجآ في آن، حكم ذاتي فعاّل، ومؤسسات أكثر ثباتاً واستقلالية إدارية مقارنة بمركز الحكومة الفيدرالية في مقديشو، التي تعاني من الهشاشة والفساد كما تواجه تحديات الإرهاب والانقسامات الداخلية. ورغم تزايد النقاشات الدولية حول مستقبل هذه الأقاليم المستقرة وهو امر لا يمكن إنكاره، لكن الاعتراف بها دولآ مستقلة شأن آخر.. من هنا، تُترك أرض الصومال في منطقة وسطى، شريك أمني واقتصادي غير معلن، تلبي حاجات العواصم المؤثرة دون أن تُمنح حقوقها.

في المحصلة؛ إعادة طرح الملف مرتبط بتغير مقاييس الميزان في العالم، ومعه تقلص فعالية المنظمة الأممية. لتكون مرامي تل ابيب ابعد من سيطرة عسكرية وأمنية شاملة على بوابتها إلى المحيط الهندي، إذ لا يمكن تجاهل مشروع الرئيس الأميركي دونالد ترامب الهادف لنقل سكان غزة إلى دول مجاورة، تحت ذريعة تحويل القطاع وجهة سياحية عالمية “ريفييرا الشرق الأوسط”؛ هنا يدخل الإعتراف في السياق الأميركي – الغربي على توقيت مناسب لتحقيق المصالح الإستراتيجية..

———————-

*عميد متقاعد؛ مختص في الشؤون الامنية و الإستراتيجية