المَشي في حقلِ الغياب..!
بقلم العميد منذر الأيوبي
هي الحقول مرّت عليها الخطى وارتحلت، ليبقى العشب شاهدًا على أسماء لم تَعُد تُنادَى. هناك، حيث تتعانق السنابل يلتقي الصدى بالريح، يتعلم القلب كيف يمشي وحيدًا دون ظلٍ يسنُدُه، ولا يدٍ تمتدّ إليه من ماضي. هو الغياب ليس فراغًا كما يُخيَّل إلينا، بل امتلاء من نوعٍ آخر، يملأ الذاكرة بالعِبَر، ويمنح الصمت لغة أبلغ من قول.
حين يرحل أحدهم، لا يغادرنا تمامًا؛ يصبح فكرة تُقيم فينا، نغمةٍ خافتة نسمعها كلّما خفّ ضجيج العالم. نتلمّس أثره في بساطة اللُقيّا، فنجان قهوةٍ نُسي على حافة حوض أزاهير، طريق سلكناه سويًا، أو غيمةً تشبه وجهه حين يبتسم. لا يموت الغائبون، بل يتبدّلون أشكالًا في وعينا دون ان ندري، يصيرون صبرآ،حكمةً أو دمعةً تتأخر في النزول. هم صيغة اخرى كمصدر إبداع وتَفَكُر ومساحة مشتقة من إمتداد الزمن..!
في حقل الغياب، يُختبر الإنسان كما لو كان في تدريبٍ على التوازن فوق خيطٍ من الضوء. يتعلم أن يستمر، أن يُكمل يومه رغم أن شيئًا من ذاته بقي هناك معلّقًا بين الذاكرة والحنين. والمفارقة أن هذا الألم ذاته هو ما يصقله، ويُعيد ترتيب علاقته بالحياة، فيدرك أن البقاء ليس دائمًا انتصارًا، وأن الخسارة أحيانًا بابٌ إلى معنى أعمق للوجود.
هنا يتقاطع الوجدان بالفلسفة، فالغياب — في جوهره — ليس نقيض الحضور، بل شرطه الخفي. كما لا يُدرَك النور إلا بظلٍّ يجاوره، لا يتجلّى معنى الوجود إلا بمرورنا في دروبه الفارغة. في لحظة الفقد يختبر الإنسان حدوده، ويكتشف أن ما يفلت من يده لا يخرج من كيانه، بل يتحوّل إلى وعيٍ جديد يسكنه. الزمن في هذا السياق لا يُقاس بالساعات، بل بالتحوّلات التي تتركها الخسارات في الروح. فكلُّ ألمٍ نجا منه القلب، صار معرفةً أكثر نقاءً، وحريةً من وهم الامتلاك.
في النهاية، الغياب لا يُقاس بعدد ما فقدناه، بل بمدى ما اكتسبناه من وعيٍ بحدود العقل، هنا يتجلّى الوجود في أكثر صوره صدقًا؛ ناقصًا، هشًّا، لكنه حيّ بما يكفي ليعلّمنا أننا نحن الغياب حين لا نحبّ، ونحن الحضور حين نعي معنى الفقد.
نحن نمشي في صحراء الغياب كما يمشي المسافر في الغيم؛ لا يعرف إن كان سيصل، لكنه يعرف أنه لا يستطيع البقاء حيث هو. وهكذا تستمر الحياة؛ خطواتٌ في المجهول، يُضيئها حنينٌ لا يُطفأ، ورجاءٌ بأن نلتقي يومًا بمن غابوا في قَرَاح طيبٍ لا غياب فيه…!
في آخر الدرب، نكتشف أن الغياب ليس نقيض الحياة، بل طريقها الخفي؛ فمن عرف الغياب، عرف الله..!
*عميد متقاعد
تابع آخر الأخبار والتنبيهات أولًا بأول.