الشرق الأوسط.. هل اقتربت ساعة التسويات الكبرى..؟

بقلم: العميد منذر الأيوبي*

بين وتيرة مرتفعة من التصعيد العسكري والسياسي من جهة، وتكثيف القنوات الخلفية للتفاوض من جهة أخرى، يشهد الإقليم حالة من التجاذب والتناقض الحاد. فيما تتصدر الأخبار مشاهد التجويع والقتل كما القصف والاشتباكات، تدور في كواليس العواصم المعنية مفاوضات محمومة لرسم ملامح ما قد يكون أكبر عملية إعادة ترتيب للنفوذ والتحالفات منذ عقود. ليكون السؤال الذي يفرض نفسه: هل المنطقة أمام هدنة عابرة، أم في ساعة التسويات الكبرى، التي ستحدد ملامح الشرق الأوسط لعقود قادمة؟

1- في المشهد الدولي والإقليمي:

تتعامل واشنطن مع الشرق الأوسط من منظور مزدوج:
أ- الاستراتيجي، الهادف دائماً للحفاظ على تفوقها في المنطقة ومنع تمدد النفوذ الصيني–الروسي، مع ضمان حرية الملاحة البحرية إضافة إلى اولوية ثابتة الحفاظ على أمن إسرائيل. أدوات المواجهة هنا تشمل الضغط الدبلوماسي مع تحفيز خطوط التفاوض المعلنة أو غير المباشرة، وتحريك الأساطيل البحرية كأداة ردع، او الحصار الاقتصادي والعقوبات.
ب- السياسي الداخلي، إذ تَتَبِع سياسة “إدارة الصراعات”، مع تجنب الانخراط غي مواجهات عسكرية واسعة؛ حرص مبني ايضآ على سعي الرئيس ترامب لترسيخ شخصيته ك “صانع السلام” Peacemaker، مرشحآ مؤهلآ لدخول نادي حائزي جائزة نوبل، وهذا ما يفرض على قراراته وخياراته ضغوطًا إضافية.

ب- بالمقابل، تنظر موسكو إلى الشرق الأوسط كأحد أهم ميادين كسر الهيمنة الغربية. سواءً في تكريس وجودها العسكري على المياه الدافئة عبر توسيع التعاون الدفاعي والتقني مع حلفائها (الصين–كوريا الشمالية–إيران..)، أم في استخدام ملف الطاقة كسلاح ضغط، إضافة إلى استثمار امتياز الفيتو في مجلس الأمن الدولي.

ج- أما بكين فتتحرك بهدوء، مستفيدة من صورتها كقوة غير استعمارية. إذ تقدم نفسها وسيطًا اقتصاديًا ومحاورًا سياسيًا، وهو ما ظهر بوضوح في رعايتها لاتفاق استئناف العلاقات بين السعودية وإيران على سبيل المثال. فيما صلب استراتيجيتها تحييد عن الصراعات العسكرية، مع ضمان وصول موارد الطاقة عبر الخليج والبحر الأحمر، كذلك محاولة توسيع مشروع “الحزام والطريق”. في أدواتها المميزة عروض استثمارات ضخمة، قروض ميسرة، وشراكات تكنولوجية – تعزز حضورها كقوة ناعمة بديلة.

2- على صعيد القوى الإقليمية الفاعلة:

أ- إيران: رغم حرب الأسبوعين مع اسرائيل والتدخل الاميركي لضرب المنظومة النووية تواظب على سياسة المزج بين محاولة دعم وإحياء “محور المقاومة” كأداة ضغط ، و إنتظار الانخراط في محادثات غير مباشرة مع الولايات المتحدة تتناول كل الملفات العالقة، من البرنامج التسليحي إلى النفوذ الاقليمي .

ب- تركيا: تتقن قيادتها سياسة اللعب على التناقضات؛ فهي تفتح قنوات تنسيق استخباراتي وسياسي مع إسرائيل والغرب، بالتوازي تنسيق مباشر مع روسيا وإيران والاتحاد الأوروبي ودول الخليج، مستفيدة من موقعها الجيوسياسي كمعبر للطاقة والتجارة.

ج- إسرائيل: رغم قوتها العسكرية، تواجه تحديًا استراتيجيًا يتمثل في استنزاف قواها على جبهات متعددة تتزامن مع ضغوط دولية متزايدة لوقف حرب الإبادة بحق الشعب الفلسطيني، إضافة إلى ضرورة التزامها تطبيق القرار الاممي 1701، وايضآ التراجع عن خططها التوسعية في الأراضي السورية. كمشروع “ممر داوود” الاستراتيجي.
د- المملكة العربية السعودية: بموازاة قفزاتها التطويرية، أصبحت في موقع جيوسياسي محوري تؤدي من خلاله دورًا مزدوجًا، استقرار إقليمي من جهة، ودبلوماسية نشطة مع انفتاح اقتصادي من جهة أخرى، سيما بعد إرساء تفاهماتها مع ايران واتباعها سياسة (تصفير المشكلات)..

3- في الملفات الساخنة تبقى غزة المرجل الأقسى. حيث يمارس العدو الإسرائيلي كل صنوف الهمجية. ورغم تفاقم الأزمة الإنسانية بقي المجتمع الدولي عاجزًا عن فرض وقف قتال طويل الأمد يمهد للحل الشامل. أما تنافس مسارات الوساطة (القطرية–المصرية–الأممية) فيزيد من الالتباس، بينما يستغله نتنياهو للمماطلة والتسويف. ليكون عنوان العقبة الكأداء من يحكم القطاع بعد تسوية، وما هو دور حركة حماس.؟

ب- سوريا: رغم كونها نقطة ارتكاز استراتيجية، فهي ايضآ ورقة مركزية لأي تسوية كبرى تتقاطع فيها حسابات القوى الإقليمية (إيران، تركيا، إسرائيل، السعودية). ورغم تنافس دولي على الاشتراك في إعادة إعمارها واستثمار مواردها إلا ان إعادة صياغة مسار الدولة يتأرجح بين وحدة هشة قائمة على تقاسم نفوذ بالتوافق الدولي–الإقليمي او تقسيمات طائفية مرتهنة اكثر هشاشة..

4- يمر لبنان في مرحلة مصيرية حساسة وخطرة، داخليًا وإقليميًا بالأبعاد الثلاث:
• في البعد الأمني: إستنكف العدو الإسرائيلي عن تطبيق مندرجات القرار 1701، رافضآ الانسحاب من الأراضي المحتلة مثابرآ على خروقات جوية يومية، مع إرتكاب جرائم القتل بالقنص عبر المسيرات،. في المقابل، يجهد الجيش اللبناني لإكمال ما تبقى من مهامه في منطقة جنوب الليطاني، لتبقى قرارات مجلس الوزراء حول حصرية السلاح قضية دقيقة، تتطلب مقاربة هادئة من القيادة العسكرية لحسن التنفيذ ضمن خطة استراتيجية وطنية تعبر بالبلاد إلى ضفة الأمان.
• في البعد السياسي الداخلي: الانقسام حول سلاح المقاومة يُعقِد اتخاذ القرارات الوطنية. فيما طروحات “الأمن مقابل التنمية” أو “التنمية مقابل الانسحاب” لا تُقرَش امام أزمة ثقة عميقة بين الأطراف السياسية، كما ان الحكومة مجتمعة تواجه تحديًا مزدوجًا بين الحاجة لإرضاء المجتمع الدولي لضمان المساعدات الاقتصادية وإعادة الإعمار ، وبين الحفاظ على التوازن والاستقرار الداخلي. ليبقى الجيش “بيت القصيد” نقطة التوازن والإجماع الوطني.
• في البعد الاقتصادي والاجتماعي: استمرار التوترات الاقليمية يرفع من حدة الأعباء الاقتصادية على المواطنين. بالإضافة إلى ان أزمة اللاجئين السوريين لا تزال تراوح مكانها دون حلول جدية لعودتهم، ما يجعل البلاد على صفيح ساخن اجتماعيآ وامنيآ..

تاليآ لا يمكن إنكار الارتباط العضوي بالوضع الإقليمي؛ فكل تقارب أميركي–إيراني هناك ينعكس مباشرة هنا، وأمن الكيان المحتل لدى دول الغرب فوق كل اعتبار.
ثم أن فرص التسوية الإقليمية ترتفع على إيقاع التقاء المصالح الاستراتيجية مع التوافقات الجيوسياسية. فيما إسرائيل تسعى إلى استسلام لا تسوية، وتطبيع لا هدنة، وتوسّع على حساب دول الطوق. وهكذا، فإن الخيارات المطروحة تنحصر بين تسوية شاملة برعاية دولية تؤسس لاستقرار نسبي جديد، أو وقف نار هش يجمّد الصراع دون حل جذوره، أو الانزلاق نحو مواجهة مفتوحة قد تتسع رقعتها بلا سقف.

اخيرآ؛ الشرق الأوسط عند مفترق تاريخي، ورغم أن بوادر التسويات الكبرى تلوح في الأفق من حين لآخر، إلا ان الطريق مليء بالعثرات، ما يجعل الأشهر القادمة فترة اختبار حقيقية لمآل الحال تقدم إلى سلام او مراوحة بائسة.

—————————

عميد متقاعد، مختص في الشؤون الأمنية والاستراتيجية