الدولة المعلّقة بين “الميكانيزم” وحدود القرار السيادي..
خاص – “الدنيا نيوز”

بقلم العميد منذر الأيوبي*
لم يأتِ إنتداب السفير سيمون كرم إلى اللجنة العسكرية الخماسية المعروفة بـ«الميكانيزم» من باب تعزيز الشكل أو إضافة خبرة ورصانة على مسار يفترض أن يكون آلية ضبط توتر، بل كجزء من محاولة لإحياء صورة الدولة القادرة على إدارة ملف التفاوض. ومع أن حضور شخصية مدنية مخضرمة قد يمنح عمل اللجنة بعدًا تمثيليًا وجرعة من الانضباط الدبلوماسي، إلا أنّ جوهر المشكلة يبقى أكبر بكثير، اذ ان العدو الإسرائيلي يتنصّل من التزاماته، وعلى رأسها ما ورد في القرار 1701، فيما الآلية المخصّصة لوقف الأعمال العدائية لم تتمكّن طوال عشرة أشهر من تحقيق خرق واحد في وقف النار، واقتصر دورها على عدّ الخروقات وتوثيقها.
هذا العجز لم يَعُد موضع نقاش. فالمشهد انتقل إلى مستوى تفاوضي آخر يتجاوز حدود الآلية نفسها، كاشفًا في الوقت نفسه أهداف إسرائيل الواضحة، مقابل السؤال عن قدرة الدولة على صدّها أو الحدّ منها وهي محاصرة بموازين قوى إقليمية وداخلية متشابكة.
تاليآ، اتت زيارة وفد السفراء التابعين للأمم المتحدة أشبه بلجنة فاحصة تستشرف ما بعد انتهاء مهمة القوات الدولية أواخر السنة المقبلة، وتبحث عن حدٍّ أدنى من ضمانات تمنع تفلّتآ غير محسوب. لكنّ ما يظلّ حاضرًا هو الدور الأميركي الذي يستطيع وقف الاعتداءات متى شاء، ويقيّد ضماناته بسلوك القوى المحلية ومنطق الردع الإقليمي. ضمانات متحرّكة لا يُبنى عليها، ما لم تكن الدولة قادرة على ضبط إيقاع الداخل، وهو رهان لم يكتمل يومًا.
هنا تبرز الوساطة المصرية كحركة لالتقاط اللحظة قبل انفلاتها. القاهرة لا تحمل مبادرة مكتملة، فهي تدرك أنّ الجنوب ليس غزة، وأنّ التعقيد اللبناني لا يسمح بنسخ اتفاقات جاهزة. لكنها تعمل من موقع العارف بحدود الممكن، محاوِلةً خفض حرارة الميدان عبر تبريد دبلوماسي يمنح الحكومة هامشًا زمنيًا تحتاج إليه، قبل أن يُفرَض على لبنان ما لا يستطيع احتماله. هي ليست وساطة الحل الشامل او المرحلي، بل «فرملة» تمنع الاحتكاك من التحول مواجهة مفتوحة على توقيت نتنياهو ورهاناته الداخلية.
ثم ان الحركة الدبلوماسية النشطة، يتعذر التجاوب معها بالكامل او العمل بنصائحها. فالحياة السياسية اللبنانية بارعة في إنتاج ضجيج يغطي فراغ القرار، والآليات الدولية كثيرًا ما تتحول إلى مسكّنات لا تعالج المرض. ما ينقص لبنان ليس لجانًا إضافية، بل كفاءة في ترجمة هذه التقاطعات ضمن قرار وطني جامع. فالآلية الحقيقية تبدأ عندما تحضر الدولة كمرجعية، لا عندما تُستدعى فقط لحظة التوتر.
أما حزب الله، فرغم اعترافه بتسليم السلاح جنوب الليطاني، فهو يعتبر ما بقي من ترسانته شمالًا وشرقًا شأنًا داخليًا يدخل ضمن استراتيجية باتت متعددة العناوين او التسميات. هذه النقطة تحديدًا تُظهر الخلل المركزي فالحزب يرفض شمول القرار 1701 الجغرافيا كلها، ولا يعارض توسيع الميكانيزم في آن، لكنه يرى أن أداء الدولة يمنح إسرائيل «هدايا مجانية». هذا يضع العهد والحكومة أمام معادلة شديدة الحساسية: كيف تُفرض سيادة ولو نسبية، ويُحفظ التوازن الداخلي، ويُمنع في الوقت نفسه استمرار العدوان والتهديد اليومي بالحرب..؟
في المقابل، يتعامل العدو مع القرار 1701 كوثيقة منتهية الصلاحية، ويسعى لتكريس منطقة عازلة من الناقورة إلى الجنوب السوري، مستغلًا أي ثغرة أو مُنتِجًا سببيات تتيح له البقاء. الاعتداءات المتكررة ليست سوى تذكير بالتفوق العسكري والتكنولوجي الاستراتيجي. ومع اقتراب قمة ترامب ـ نتنياهو، تتابع واشنطن توصياتها بإلتزام عمليات «منضبطة الإيقاع» تُستثمر ديبلوماسيًا سندآ لمعطيات الميدان، وهو ما أكّد عليه الرئيس ترامب بوضوح.
ويتقدّم هنا تصريح توم براك حول احتمال «ضمّ لبنان وسوريا» كورقة ضغط تكتيكية. هذا الكلام لا يعكس استراتيجية أميركية، بل خطابًا شخصيًا يهدف لرفع منسوب الضغط على الأطراف اللبنانية. فالواقع الجيوسياسي يحول دون مثل هذه الطروحات، لكنه يسمح باستخدامها لدفع لبنان إلى طاولة تفاوض شكلية يكون فيها «مفعولًا به» ضمن شبكة أوسع من التسويات الإقليمية.
على خط كليمنصو، خرج وليد جنبلاط بعد لقائه الرئيس نبيه بري برؤية واضحة لشروط أي تفاوض محتمل: لا حوار تحت النار، وقف كامل للاعتداءات، انسحاب من الأراضي المحتلة، واحتكار السلاح بيد المؤسسات. هذه ليست مجرد مواقف سياسية، بل محاولة لتثبيت الإطار الوطني تلافيآ للسقوط في مسار قد يُغيّر وجه الجنوب لعقود.
في السياق، يستمر النقاش حول إمكان دمج جزء من عناصر حزب الله في مؤسسات الدولة كآلية احتواء. هذه المقاربة قد تضبط المشهد الحدودي وتخفف منسوب التوتر، لكنها ليست حلًا جذريًا لسلاح الحزب أو لميزان القوى الداخلي. نجاحها يتوقف على معايير صارمة: تدريب موحّد، قيادة مركزية، عقيدة وطنية واضحة، وآليات مساءلة فعلية، وإلا تحولت إلى ازدواجية مقوننة بدل أن تكون جزءًا من استراتيجية بناء الدولة.
في المحصلة، ليس ما يجري مجرد حركة سياسية أو أمنية. إنّه اختبار حقيقي لقدرة السلطة اللبنانية على تحويل الضغوط الخارجية والفرص الدبلوماسية إلى قرار وطني، وعلى فرض حدٍّ أدنى من السيادة على الأرض وحدودها ومجالها الحيوي.
يبقى السؤال: هل تستطيع الحكومة تفعيل ما لديها من أوراق قوة..؟ وهي ليست إلا خيار الوحدة الوطنية. هذا يعتمد على إعادة إنتاج القرار داخل المؤسسات، وعلى الإدراك أن القوة هنا ليست عسكرية بل سياسية ـ دبلوماسية، تستثمر حاجة الخارج للاستقرار، وتعيد بناء ثقة الداخل بالدولة القادرة.
————————
*عميد متقاعد. مختص في الشؤون الأمنية والاستراتيجية
تابع آخر الأخبار والتنبيهات أولًا بأول.