المكان الجريح… بين الذاكرة والصمود..!
خاص – “الدنيا نيوز”

بقلم : العميد منذر الايوبي*
كأنّ المكان، أي مكان، يحمل تحت جلده حكاية لا يريد البوح بها دفعة واحدة. الطرقات التي اعتادت صخب البشر صارت تمشي اليوم على رؤوس أصابعها، والجدران التي كانت تصدّ الريح باتت تتكئ على ذاكرةٍ أثقل من قدرتها على الوقوف. ليس المكان مجرّد مسرحٍ للأحداث؛ هو الجسد الذي تلقّى الضربة الأولى، وصمت عنها، وواصل الحياة ببطءٍ يشبه شجاعة المتعبين.
في الأزقة ندوبٌ لا تُرى، وفي الهواء بقايا أصواتٍ لم تعد تجرؤ على العودة. ومع ذلك، يظلّ في قلبه شيءٌ يشبه الرفض… رفض أن يتحوّل جرحه استسلام، أو أن يغدو مجرّد شاهدٍ على من مرّوا وفاتهم الزمن.
المكان الجريح ليس ضحية ما حدث له فقط، بل ضحية ما لم يحدث أيضًا. الأماكن لا تنكسر من العواصف؛ بل من فراغ تركه الغياب، من وعود لم تُنفَّذ، ومن بشرٍ مرّوا فيها كالعابرين لا مرور القاطنين. للمدينة قلب، لكنّ الضربة الأقسى تأتي حين يتصرّف أهلها كأنّهم لا يسمعون نبضها.
في الليالي الحالكات، حين تخفت الضوضاء، يُسمع همس يشبه رجفة جدار قديم اكتشف فجأة أنّ ذاكرته أثقل مما ظنّ. وفي هذا الهمس نجد الحقيقة كلها.. المكان لا يشتكي من ضعفه، بل لأنه شهد أكثر مما احتمل… وعرف أنّ الإنسان يستطيع أن يؤذي موطنه أكثر مما يؤذي نفسه أحيانًا.
جنوب لبنان، بأزقته الضيقة وجباله الشماء ووديانه النائمة على مضض يختزن تاريخًا من الحروب والأيام الصعبة، هو مثال حي للمكان الجريح. الطرقات والمسالك تحمل آثار أقدام لم تعرف الاستقرار، فيما حقول التبغ وسهول الزيتون المبارك تُنبِت زرعآ روي بدموع الأهالي، دموع تذكر بخيبات الماضي.. حتى الزوايا المنسية ملأى صدى حكايات لم يُكتب لها انتهاء. ومع كل الإنتصارات والانكسارات، يبقى الجنوب قادرًا على الصمود، كمكان يحرس ذاكرته ويُعلّم الزائر أن الألم لا يقتصر على ما خسره، بل على ما يمكن أن يرفض فقدانه. الجنوب هنا يعلم أهله الصبر، ويحتفظ بسكون الرجاء أن يومًا ستعود الحياة كما لو أن قلبه لم يُجرح أبدًا.
المكان الجريح لا يراقبنا من علٍ، بل من مستوى الأرض. من ترابٍ امتلأ آثار أقدامٍ كثيرة، بعضها جاء يحتمي، وبعضها أتى يجرّ خلفه صخبًا لا يشبهه. لهذا تبدو المدن أحيانًا متعبة كشيخٍ يبتسم من فوق ألمه؛ تعرف أكثر ممّا تريد، وتكتم أكثر ممّا يجوز. وفي لحظات الاضطراب الكبرى، تتصرّف الأماكن كأنّها تسأل أهلها سؤالًا ضمنيًّا: لمن تنتمون فعلًا..؟ فالانتماء الحقيقي لا يُقاس بالنشيد ولا بالعلم، بل بطريقة رفع الحجارة حين تسقط، بطريقة النظر إلى الجرح لا بوصفه ثقبًا في الذاكرة، بل علامة على أنّ المكان ما زال قادرًا على الشعور.
المكان الجريح ليس محتاجًا من يرثيه، بل لمن يسمعه. جرحه ليس علامة ضعف، بل مؤشر قيامة؛ وما دام يشعر، فهذا يعني أنه ما زال يطالب بدورٍ في المستقبل، لا بصورة الماضي ولا بترميمٍ تجميليّ، بل بحضورٍ جديد يولد من صدقه لا من شعارات تُلقى عليه.
ثم ان أن مسؤولية الإنسان ليست في حماية ما أُشيد وعُمِر، بل في حماية المعنى الذي يجعل تلك الحجارة وطنًا. المكان لا يشفيه الإسمنت، بل شجاعة اهله للوقوف مجددآ، ولو ارتجفت الأرض تحتهم. كل مدينةٍ جريحة تحمل في عمقها بذرةً صغيرة، علامة رفض الانقراض وإن لم تُر ّبالعين. هي البذرة نفسها التي تجعلها تعود من رماد كما لو أنها تُجرّب فرصة جديدة مع الزمن.
بين الإنسان والمكان عهدٌ غير مكتوب، وما دام أحدهما يرفض السقوط، يستطيع الآخر أن يتنفّس. ولهذا يبقى المكان الجريح أكثر وفاءً مما نظنّ… يحتفظ لنا بمستقبلٍ لم نكتب فصوله بعد، وينتظر أن نقول له أخيرًا: لن نتركك وحدك..!
في النهاية، يبقى المكان الجريح كيانًا حيًّا، ينبض صمتآ يعلو على أي صوت، يحفظ في ذاكرته ما لا تُبديه العيون. هو يقول أن الندوب ليست ضعفًا، بل قدرةٍ مكنونة للعودة مهما انهارت الطرق حولنا. هو يحمل وعد حياة تستمر، وأن القلب لا ينطفئ ما دام هناك من يسمعه ويعتني به. هكذا، تصبح الأماكن الجريحة مرايا لنا تعكس ضعفنا، وتظهر قوتنا، تعلّمنا أن الوفاء للأرض وفاء للذات، وأن البقاء لا يكون فقط بإستمرارية العيش، بل بالاعتراف بالجرح وبحفظ الأمل…
——————————-
*عميد متقاعد، كاتب
تابع آخر الأخبار والتنبيهات أولًا بأول.