فنزويلا بين حسابات القوة وحدود الإنذار الأميركي..
خاص – “الدنيا نيوز”
بقلم العميد منذر الايوبي*
ما جرى بين واشنطن وكراكاس في الأسابيع الماضية لم يكن مجرد مكالمة هاتفية عابرة، بل اختبارًا عاريًا لميزان القوة بين رئيسين متشبثان بقراءات مختلفة تمامًا لطبيعة الصراع. التسريبات التي تحدثت عن مهلة “خروج آمن” أعطاها دونالد ترامب لنيكولاس مادورو، ليست حدثًا منفصلًا، بل حلقة في سلسلة تضييق خانقة وصلت ذروتها مع قرار إغلاق المجال الجوي الفنزويلي، في خطوة جدية بعيدة عن رمزية قبل أي تدخل فعلي.
السلوك الأميركي يمكن فهمه ضمن إستراتيجية استهلاك الأوراق تدريجيًا. لسنوات اعتمدت واشنطن دعم المعارضة، الضغط الدبلوماسي، والحصار الاقتصادي. لكن هذه الأدوات لم تنتج التغيير المنشود. ومع فشل محاولات “التناوب الديمقراطي” التي روّجت لها، بدا من الواضح أن الإدارة الأميركية تحوّلت إلى سياسة عضّ الأصابع، حيث يصبح زمن الخصم هو الهدف بحدّ ذاته.
تاليآ؛ شكلت المكالمة الهاتفية نقطة انحدار جديدة، فوفق التسريبات، قدّم الرئيس الفنزويلي لائحة مطالب تكشف مدى ضيق هامشه: رفع العقوبات عن عائلته والمقرّبين منه، شطب الملاحقات القضائية، وضمان انتقال سياسي عبر نائبة الرئيس.
هذا النوع من الطلبات لا يخرج من رئيس واثق، بل من سلطة تشعر أن محيطها يضيق. بالرغم من ذلك فهو رفض صيغة “الخروج الآمن” كما أرادتها واشنطن. ف بالنسبة إليه، التراجع العلني يعني انهيار ما تبقى من شرعية الثورة البوليفارية.
تزامنآ؛ يعيش الشارع الفنزويلي بين سيادة مهددة وخطاب تعبوي؛ اذ لجأ مادورو إلى استثمار اللحظة عبر إحياء نبرة أيديولوجية شافيزية. فتعبيره عن رفض “سلام العبيد” ليس مجرد خطاب شعبوي، بل إعادة رسم خطّ الدفاع الأخير؛ بمعنى تحويل المواجهة إلى معركة كرامة وطنية. هنا يتحول الخطاب وسيلة لضبط المزاج الشعبي، ولإقناع القاعدة أن الصراع ليس على سلطة، بل على وجود الدولة. ليكون لافتآ إعلانه خضوع البلاد منذ 22 أسبوعًا لـ“إرهاب نفسي”. هذا الاعتراف يكشف أن الضغط الأميركي بات عاملآ مؤثرآ على العصب الداخلي للنظام.
سياقآ؛ يعتبر إغلاق المجال الجوي الحلقة الأخيرة لإستكمال الحصار الذي بدأ عبر ضربات بحرية ضد سفن وُصفت بأنها ممرات لتهريب المخدرات. وعليه تصبح الحجة المبنية على الاسباب او الذرائع متكاملة: العقوبات، اتهامات تمويل الإرهاب، ضربات محدودة، ثم الإغلاق الجوي… ما يمهّد ويفتح المجال امام اسقاط النظام من الداخل او الغزو البري..
كما ان ادراج مادورو على رأس منظمة إرهابية – “إلكارثيل دي لوس سوليس” – ليس مجرد خطوة قانونية. إنه حجر الزاوية الذي يحتاجه البيت الأبيض لإضفاء شرعية داخلية لأي تحرك عسكري. فحين يصبح الخصم “إرهابيًا”، تُصبح كل الخيارات قابلة للتسويق.
لكن المشكلة تكمن حتى الآن في هشاشة الأدلة وقدرة التنفيذ بعيدآ عن الضجيج الاممي. فاجهزة إنفاذ القانون الاميركية تعترف أن إثبات علاقة مباشرة بين مادورو وكارتيلات المخدرات أمر بالغ الصعوبة. الشبكات موجودة، نعم، وكثير منها يعمل عبر الجيش والأجهزة، لكن تحويلها إلى دليل يربط الرئيس نفسه بالإرهاب خطوة قانونيًا هشة وسياسيًا محفوفة بالمخاطر.
من جهة اخرى؛ تنظر الولايات المتحدة إلى فنزويلا باعتبارها فجوة في أمنها القومي. القرب الجغرافي، ووجود حلفاء لليسار الفنزويلي مثل كولومبيا بقيادة بيترو أو المكسيك تحت شينباوم، وارتباطات الكارتيولات العابرة للقارات. كل هذا يدفع واشنطن إلى منع قيام خط تماس جديد مع كل من روسيا والصين في نصف الكرة الغربي. كما أن ترك فنزويلا بنظامها الحالي يفتح الباب أمام نفوذ مضاد لها في منطقة تعتبرها تقليديًا “حديقتها الخلفية”.
قبل السؤال إلى أين؟.. يمكن تسجيل التالي:
— أن تعريف الإرهاب وهو التعريف الأكثر تلاعبًا في القانون الدولي – يتحول هنا إلى مفتاح قرار حرب محتملة. في عالم خالٍ من معايير موحدة، حيث كل ملف قابلًا للتأويل وفق ميزان القوة لا وفق ميزان القانون.
— تسعى واشنطن إلى خلق معادلة استسلام مشروط، لا انتقال سياسي تفاوضي. وهذه معادلة تقلب القواعد التقليدية للعلاقات الدولية التي تقوم عادة على “مساومات”، لا على “إملاءات”.
المواجهة حتى الآن ليست صدامًا مباشرًا، بل رقص على حافة الهاوية. كل طرف يختبر مدى قدرة الآخر على التراجع. مادورو يراهن على الحاضنة الاجتماعية وحلفائه الخارجيين. ترامب يراهن على ضيق الوقت، ضغط العقوبات وتآكل الداخل. والنتيجة أن فنزويلا اليوم في قلب اختبار يتجاوز حدودها: اختبار لقدرة دولة من العالم الجنوبي على البقاء خارج المدار الأميركي دون أن تُقصف أو تُخنق.
ختامآ؛ هذا الصراع يبدو مفتوحآ لا عودة عنه وسيتمدّد، لأن أطرافه لم تستنفد أدواتها بعد، ولأن الجغرافيا – كما العادة – تكتب القصص قبل أن يكتبها السياسيون ..!
*عميد متقاعد؛ مختص في الشؤون الامنية والاستراتيجية
تابع آخر الأخبار والتنبيهات أولًا بأول.
