واشنطن تعيد صياغة خطابها في بيروت..!
خاص – “أخبار الدنيا”

بقلم العميد منذر الأيوبي*
لم يعد الحضور الأميركي في لبنان مجرّد متابعة دبلوماسية تقليدية، بل بات أقرب إلى إدارة سياسية مباشرة لمرحلة دقيقة ومفصلية يمرّ بها البلد. في هذا السياق، تقود حركة السفير الأميركي في بيروت، ميشال عيسى، إعادة صياغة للخطاب الأميركي على المستوى التنفيذي، من دون أن يعني ذلك تبدّلًا في جوهر السياسة. . السفير عيسى لصيق بصاحب القرار في واشنطن، ومهندس الإيقاع في بيروت، يختبر حدود الليونة، ويعيد ضبط اللغة بما تسمح به تعقيدات الواقع اللبناني…
برز هذا التحوّل في تصريحات أدلى بها إدوارد غبريال، بصفته شخصية أميركية متابعة للملف اللبناني، إذ اعتبر أن ما أُنجز في ملف السلاح يُعدّ “جيدًا”، داعيًا إلى استكمال حصره بالدولة بهدوء ومن دون التسبب بتدهور الاستقرار الداخلي، مع إشادة بأداء الجيش اللبناني وبوضوح خارطة الطريق، إضافة إلى الترحيب بتعيين مندوب مدني ضمن آلية “الميكانيزم”. هذا الخطاب يعكس انتقال المقاربة الأميركية من لغة الضغط المباشر إلى منطق أكثر تدرّجًا، هدفه إدارة المخاطر لا تفجيرها.
غير أنّ هذا التحوّل يصطدم سريعًا بحدود الداخل اللبناني. فالدولة، رغم ضرورة استثمار المناخ الدبلوماسي المستجد، لا تزال تعاني بطء القرار وتعدّد المرجعيات، ما يضعف قدرتها على تحويل الوقت المتاح إلى إنجازات ملموسة. هنا، يتحوّل عامل الزمن من فرصة سياسية إلى عبء، وتُقرأ المهَل الخارجية، في أكثر من عاصمة، على أنها إدارة وقت لا إدارة حل.
في قلب هذا المشهد، يبقى ملف السلاح العقدة المركزية. إذ انتقلت المقاربة الأميركية من منطق الفرض إلى خيار “الاحتواء” (Containment)، كمسار مرحلي لتفادي الانفجار. غير أنّ الاحتواء، من دون أفق زمني واضح أو مبادرة سياسية داخلية متماسكة، لا يتجاوز كونه تجميدًا هشًّا، سرعان ما يصبح عرضة للانهيار عند أول تبدّل في المعادلات الأمنية.
على الضفة الأخرى، يبرز العامل الإسرائيلي كعنصر ضغط دائم، بل كعامل تعطيل لأي مقاربة تدريجية. فإسرائيل تتعامل مع الجنوب اللبناني من زاوية استراتيجية بمعنى (التطبيع مقابل الانسحاب) لا نزع السلاح ووقف الخروقات. فيما الدولة اللبنانية تنظر إلى الأمر من واقع امني صرف، طموحها العودة إلى اتفاقية الهدنة المبرمة عام 1949. هذا الواقع مرفقآ بالتباين بين خطاب أميركي يدير الوقت بمنطق التسوية، وسلوك إسرائيلي يختبره بالنار، يضع واشنطن أمام معادلة معقّدة : كيف يمكن ضبط إيقاع بنيامين نتنياهو فيما لا يتقاطع بالكامل مع المسار المتدرّج الذي تعتمده..؟.
في موازاة ذلك، تواصل المؤسسة العسكرية أداء دورها كعمود فقري للاستقرار الداخلي. غير أنّ تحميلها أكثر مما تحتمل، أو استهدافها بسهام النقد السياسي من بعض أطراف الداخل، أمر غير سويّ. إذ إن أي مساس بدورها في حفظ السلم الأهلي يهدّد بتحويلها من عنصر ضبط إلى طرف في نزاع. من هنا، تبرز الحاجة إلى تجديد الغطاء السياسي الحكومي لمهامها، وتثبيت الدعم الدولي اللازم، تسليحًا ولوجستيًة، لمواكبة التحديات الميدانية المتزايدة.
ضمن هذا المشهد المركّب، يعود الحديث عن التطبيق الكامل لاتفاق الطائف لا بوصفه شعارًا إصلاحيًا، بل كضرورة سياسية لإعادة بناء التوازنات الداخلية. فالتفاهمات الجزئية، مهما بدت واقعية، تبقى حلولًا مؤقتة ما لم تُدرج ضمن إطار دستوري جامع، يُنتج خطابًا سياديًا موحّدًا ويؤمّن مظلّة داخلية في مواجهة الضغوط الخارجية.
خلاصة القول، إن إعادة صياغة الخطاب الأميركي في بيروت فتحت نافذة نادرة بين الضغط والتسوية. غير أنّ هذه النافذة تضيق كلما تباطأ الداخل اللبناني في الإمساك باللحظة، وكلما استمر العامل الإسرائيلي في اختبار حدودها أمنيًا. وحتى الرهان على نجاح الرئيس الأميركي دونالد ترامب فرض وقف الاعتداءات والالتزام بمندرجات القرار الأممي 1701 على بنيامين نتنياهو خلال اللقاء الثنائي المرتقب في التاسع والعشرين من الشهر الجاري، يبقى رهانًا ناقصًا ما لم يقابله قرار لبناني قادر على تحويل الوقت إلى إنجاز، والفرصة إلى فعل سيادي.
——————————————
عميد متقاعد؛ مختص في الشؤون الأمنية والاستراتيجية.
تابع آخر الأخبار والتنبيهات أولًا بأول.