مَريم العَذراء… من لبنان إلى قلبِ الكون..!
بِقَلم: العَميد مُنذِر الأيوبي
في هُدوء الفَجر إنسكابُ الضوءِ على القلوب، أطل عيد السيدة العذراء كما كل عام رمزآ للنور سابقآ كُل نهار؛ دعوةٌ للتجدد تُتاحُ لكل حياة، مفتاح تجلٍ لسلام داخلي حين يسلم المرء إرادته لله..
في حضرتها المريمية، تتجسد الرحمة والإيمان معًا، لتتحول الطبيعة البشرية مرآة طهارة وسمو روحي، حيث تُزهر القدرة على الحب والتسامح
دون شروط..!
في المخيالِ المسيحي–المشرقيِّ، عيدها ليسَ حدثًا ليتورجيًّا فحسب، بل لحظةً كونيةً تعيدُ الإنسانَ إلى جوهرِه الأول باحثًا عن معنى الوجود في عالمٍ مثقلٍ بالخَطَأةِ والخطايا. دعوةٌ للتأملِ في التسليمِ الكاملِ للهِ، وفي القدرةِ على تحويلِ الألمِ إلى رجاءِ، والخوفِ إلى ثقةٍ..!
لبنانُ، هذا الوطنُ الصغيرُ المزيّنُ صلواتً وترانيمِ، حظوته حضور خاصٍّ في قلبِها. على التلّةِ الخضراءِ الممتدةِ بين البحرِ والجبلِ، يلتقي الكورانيّونَ حولها في إيمانهم وتقاليدِهم، لتتحوّل رمزيةُ العيدِ فسحة لقاءٍ عابرٍ للطوائفِ، حيثُ الإيمانُ جسرآ لا جدارًا، ووحدةً لا انقسامًا. كلُّ أرزَةٍ شمعةٌ، كلُّ زيتونةٍ كنيسةٌ، كلُّ شجرةِ تينٍ أيقونةٌ، وكلُّ وادٍ أنشودةً مريميةً تصعدُ نحو السماءِ، الطبيعةُ بأسرها تشاركُ في فرح التسبيحِ، كأنّها تقولُ إنَّ الخليقةَ تنتظرُ أن تتحوّلَ لتصبحَ إناءً للنورِ..!
في البعدُ الفلسفيّ–اللاهوتيّ، العيدُ ليسَ مجرّدَ شعائر تُمارس او سلوكيات مرتبطة بالهوية المجتمعية، بل فعلُ “استحالةٍ” بالمعنى الأرسطيّ–اللاهوتيِّ، تحوّلُ الكائنِ من حالٍ إلى حالٍ، من ترابٍ زائلٍ إلى حضورٍ متألّهٍ. تَغَيُرٌ في الكَيفَ ؟ وفي صيرورة الأشياء.. بمعنى التبدل في الأعراض لا في الجواهر.. فكل تجربة صعبة تُستحال منارةً تُضيء طريق البشر… *لأنه كما العنب حتى يصير خمرآ يُعصَر، فالسيد المسيح قال على لسان أشعياء (دست المعصرة) مَعْصَرةُ الألم “وحدي” .. (أش 63:3) .!
إنتقالُ مريم يعلنُ أنّ المصيرَ ليسَ الموتُ بل الحياةُ، وليسَ الترابُ بل المجدُ. هنا يلتقي العقلُ الفلسفيُّ بالرجاءِ الروحيِّ، ليصبح التحوّلُ ليس مجرد فكرة ميتافيزيقية بل خبرةًً كونيةًً تتجسّدُ في قداسةِ امرأةٍ، نموذجًا للتسليمِ الحُر يفتحُ للإنسانِ طريقَ الخير والخلاصِ..!
في البعدُ الأنثويّ–الأموميّ، تُشرقُ العذراءُ أُمَآ للإنسانيةِ، تحفظُ سرَّ الوجودِ برقتها وصلابتها معًا. من ضعفِها قوّةٌ، في صمتِها كلمةٌ، وفي طاعتها حريةٌ. هذا التسليمُ الكاملُ يجعلُها رمزًا للإنسانِ الذي يواجهُ خوفَه وقلقَه، ويكتشفُ أنّ الطريقَ إلى الله يمرُّ عبرَ الثقةِ والطاعةِ، لا عبرَ التملكِ والسيطرةِ..!
ولعلّ أجملَ ما يمنحُ العيدَ بعدًا شموليًّا هو حضورُ مريمَ في الإسلامِ أيضًا. هي في القرآنِ “الطاهرة المصطفاةُ على نساء العالمين”، أمّ المسيحِ وكلمةِ اللهِ، المرأةُ التي تجلّت حياتُها في معجزةَ الاستحالةِ عينها من بشرٍ إلى إناء للتدبير الإلهي. هكذا تصبحُ العذراءُ جسرًا روحيًّا، يلتقي عندَ أعتابها المؤمنونَ على اختلافِ معتقداتهم، في طهرِها وسجودِها للهِ..!
لطالما أيقَظَنا العيد من سَبات الروتين والنُزوعِ إلى المظاهر، ليكون التسامُح والصبر فعلآ يوميآ وتفاعلآ مع النفس. تقاطعٌ بين الضمير والوجدان بين الاخلاقيات والأحاسيس، تعلُم كيف نُحول الصعاب فرصآ للخير، وكيف نجعل الحب لُبوسَ حياتنا اليومية، وأن كل فعل صغير نابعٌ من النية الصافية يحمل أثرًا كبيرًا على من حولنا..!
الليتورجيا الكنسيةِ بتسابيحها وأناشيدها ليست مجرّدَ طقسٍ جماعيٍّ، بل إعلانٌ أنّ الكونَ نفسهُ دخلَ ملكوتَ السماواتِ.. في كلِّ مزمورٍ صدى لحنٍ كونيٍّ، وكلُّ شمعةٍ مضاءةٍ شرارةٌ من نورٍ لا يعرف أفولًا.
عيدها ليس ككل عيدُ ليسَ ذكرى لماضٍ، بل دعوة لحاضرٍ مُتجدد. نداءٌ إلى الإنسان كي يتحرّر من أثقالِ الأرض، ليكتشفَ ان في داخله بذرةَ الصعودِ، وليرى في انتقالِ مريم صورَتَه ومصيرَه، ويُفتح له باب النور، بابٌ يَمُر منه نحو الله، ونحو الآخر، ونحو ذاته المتجددة في رجاءٍ لا يزول..!