مي زيادة الدرة اليتيمة (3):العيون التي تشعر …كانت محور تخاطبها مع العقاد

 

“أخبار الدنيا” – دانيا يوسف

بالعودة إلى تجربتها الأدبية، تأثرت مي زيادة بتجربة رائدة في مطلع النهضة الأوروبية خاصة في عصر لويس الرابع عشر في فرنسا حيث كان صالون مدام ريكاميه وهي سيدة كانت على جانب كبير من العلم والذكاء جعلت من إحدى غرف بيتها منتدى لتحريك الأفكار وتبادل الرؤى الثقافية والفكرية. كما كان هناك صالون آخر شهيرا هو صالون مدام دو ستايل تأثرت به مي زيادة خاصة لناحية اهتمام مناقشاته وندواته بالتراث العالمي كله. وهكذا ولد في الرابع والعشرين من شهر نيسان/ابريل من العام 1913 أشهر صالون أدبي شهده القرن العشرين: صالون مي.
كان الكاتب والمفكر المصري عباس محمود العقاد وهو من ألمع مفكري عصره لا ينكر حبه لمي، وقد لمح له كثيرا في روايته “سارة” وأعطى مي فيها اسما مستعارا هو هند. وكانت الخطابات المتبادلة بين مي والعقاد بدورها ثروة أدبية وفكرية…
مي زيادة:”العيون… ألا تدهشك العيون؟ تلك الأحداق القائمة في الوجوه كتعاويذ من حلك ولجين. تلك المياه الجائلة بين الأشفار والأهداب. كبحيرات يتنطقن بالشواطئ وأشجار الحور. وجميع العيون. وتلك التي تذكرك بصفاء السماء. وتلك التي تعرج بخيالك في ملكوت أثيري كله بهاء. العيون التي تشعر. العيون التي تفكر.. العيون التي ترنّح. وتلك التي يتسع سوادها أمام من تحب، وينكمش لدى من تكره. وتلك التي تقرر بلحظة: أنت عبدي. وتلك التي تقول: بي حاجة إلى الاستبداد… فأين ضحيتي؟”
العقاد: “يا أم العيون… أمس كنت أطالع مقالا لك في العيون… أعجبني إلمامك بكل ما في العيون، وبكل ما خلف العيون. وكان لك علي مهبط وحي. أتسمعين يا أم العيون؟
لا أرى الدنيا على نور الضحى
حبذا الدنيا على نور العيون
علّ مياّ هذه المرة تجيبني على رسالتي الصغيرة. ولا تنساها كما كانت تفعل برسائلي السابقة. واسلمي للذي يراك بألف عين”…
يقول الكاتب اللبناني مارون عبود:”كل من رأى مي، وكل من شهد مجلسها أحبها. أما هي فظلت كسنديانة صامدة وكالجبل ما يهزه ريح”.
ما بين عام 1929 1932، بدأت النكبات تتوالى على مي زيادة ففجرّت لديها براكين الخوف والقلق… عاشت مي صقيع الوحدة وبرودة هذا الفراغ الهائل الذي تركه لها من كانوا السند الحقيقي لها في الدنيا… وحاولت أن تتغلّب على وحدتها فسافرت في العام 1932 إلىانجلترا لكن حتى السفر لم يكن لها الدواء… فقد عادت إلى مصر ثم سافرت مرة ثانية إلى ايطاليا ثم إلى روما ثم عادت إلى مصر حيث استسلمت لأحزانها… فأرسلت خطابا لابن عمها في لبنان تخبره بحالتها قائلة: عزيزي يوسف
منذ مدة طويلة لم أعد أكتب. وكلما حاولت ذلك شعرت بشيء غريب يجمد يدي ووثبة الفكر لدي…
إني أتعذب شديد العذاب يا جوزف ولا أدري السبب، فأنا أكثر من مريضة، وينبغي خلق تعبير جديد لتفسير ما أحسّه فيّ وحولي. إني لم أتألم في حياتي كما أتألم اليوم، ولم أقرأ في كتاب من الكتب أن في طاقة بشري أن يتحمل ما أتحمله. وددت لو علمت السبب على الأقل. ولكنني لم أسأل أحدا إلا وكان جوابه: لا شيء انه وهم تمكّن مني…”
ثم جاءها ابن عمها وطلب منها أن تصحبه إلى لبنان لتغيّر جو الكآبة التي تعيش فيه… ووعدها بأن الدفء والناس الذين يحبونها في لبنان سيعوضونها عن فقد الأحباب ومشاعر الوحدة التي تعيشها في مصر على أن يعيدها إلى مصر بعد أسبوع… لكن الأسبوع امتد أكثر من شهرين، لتجد نفسها في نهاية الأمر نزيلة مستشفى الأمراض العقلية…م

(في الجزء الأخير: الفصل المأساوي من حياة مي زيادة)