محمد الماغوط الشاعر المتمرد (2):في “شعر” بدا كوحش بري لم تروضه الاوزان والقوافي

 

الدنيا نيوز –  دانيا يوسف

في السلمية في منتصف القرن العشرين كان ثمة حزبان يتنافسان: حزب البعث، والحزب السوري القومي الاجتماعي. وإذ خرج الشاعر الكبير من بيته، وهو يكاد يتجمد من شدة البرد، انتبه إلى مقر الحزب السوري القومي فوجد فيه مدفأة، وكان قريباً من حارته، فدخل المقر والحزب معاً. ولو أنه وجد مدفأة في مقر حزب البعث لدخله وصار بعثياً. وعلى هذه التهمة: الانتماء إلى الحزب السوري القومي، سجن الماغوط عام 1955 دون أن يصدق جهاز المخابرات أن علاقته بالحزب لا تتعدى علاقته بمدفأة الحزب. عندما أسأله يجيبني بغضب ظاهر: ” وأنا في التاسعة عشرة من عمري، أتساءل: ما هي تهمتي بالضبط؟ لم أقرأ صفحتين من مبادئ الحزب، ومنذ أن انتهت موجة البرد الأولى، لم أحضر له اجتماعاً، ولم أقم بأي نشاط لصالحه على الإطلاق…”
في المرحلة الممتدة بين أعوام 1958-1961 تمت الوحدة بين سورية ومصر وتميزت بوطأة أمنية شديدة، طالت المثقفين المعارضين أو الذين يحملون آراء ومواقف معارضة لآراء ومواقف حكومة الوحدة. في هذا السياق، تمت مطاردة محمد الماغوط، فهرب إلى لبنان.
كانت بيروت الخيمة الأخيرة التي تظلل الهاربين من بلدانهم، وفيها مساحة للحلم والحرية. وتبدأ المرحلة الأساسية في حياة الماغوط الأدبية. هناك التحق بمجلة شعر أشهر مجلة في تلك الفترة والتي يقودها شعراء كبار أسسوا للحداثة العربية حينها. دخل الماغوط مجال الشعر كوحش بري لا يروَّض، فحطم كل الأوزان والقوافي التي تريد ترويضه، وكتب ما ليس للشعر العربي عهد به من قبل. كتب آلامه الشخصية، وتاريخه الشخصي المحمول على الحزن المتطرف، والرعب المتطرف، وعلى وَلَهٍ متطرف أيضاً، بالحرية. كان أعضاء مجلة “شعر” يتحاورون ويكتبون وينظّرون حول القصيدة: ماهيتها، بنيتها، ما هو الشكل الذي يجب أن تكون عليه الكلمات لتصير قصيدة؟ فأطاحوا بالبحور الشعرية التي كان الشعر لمّا يزل يرتسم عليها منذ نشأته الأولى وحتى منتصف القرن العشرين. وسرعان ما انقسمت المواقف حول هذا الجديد: فمن جانب، كثر الشعر الذي يقوم على التفعيلة، ومن جانب آخر كثرت الصرخات المعادية التي تتهم “شعر” وجماعتها بأنهم يهدمون التراث العربي. في هذه الأثناء أيضاً، كان الشعر بصفة عامة، وبتأثير قوي من أدونيس، يتقدم بلغة معقدة وصعبة وكانت مفردات الوجود والعدم ، الموت والحياة، البعث والانبعاث، ومفردات الأساطير شديدة الحضور فيه، الأمر الذي أدى إلى ظهور معركة أخرى بدأت تُشن على الغموض في الشعر الجديد آنذاك.
وسط تلك المعارك التي تتطلب شحذ أقوى الأسلحة المعرفية، كان محمد الماغوط مشغولاً بقلق آخر: الوطن والحرية، الهذيان والرعب. كان يرى الشعر الذي تدعو إليه مجلة “شعر” غارقاً في متاهات جدلية عن الوجود والعدم، وألغاز تفصلها مئة سنة ضوئية عما يدور على الأرض. يحدثني بأسى عن تلك التجربة: “أما أنا فكنت غاضباً وجائعاً، أتحدث عن قمل السجن، والقدم الحجرية للسجان على قلبي، وعن التوابيت وساحات الإعدام وشفاه غليظة لرجال قساة، وعن الحلم الذي انطفأ، وابتساماتنا وأهدابنا قاتمة. كان يهمني أن أعقد مؤتمراً لكل الجياع ومشردي ومضطهدي الوطن العربي وألقي عليهم قصيدة: علمتهم التسكع في الطرقات وتحت المطر وفتحت ثغرة في جدار أصم.”

(في الجزء الثالث: ماذا بعد بيروت؟ وأيهما غلب الآخر الماغوط الشاعر أم المسرحي؟)